رأي

قراءة في المشهد السياسي بعد اغتيال الطباطبائي : ماذا بعد؟ (أكرم بزي) 

 

كتب أكرم بزي – الحوار نيوز

 

يشهد الداخل اللبناني في الآونة الأخيرة تصاعدًا في الخطاب الداعي إلى ضرورة البحث عن تسوية تُجنّب البلاد أيّ تصعيد إسرائيلي محتمل، وهو خطاب تُروّجه قوى سياسية عدة مرتبطة بالمحور الأميركي ـــ الإسرائيلي، في محاولة لإعادة طرح مسألة السلاح من زاوية «الأمن الوطني» و«تفادي الحرب». ويترافق ذلك مع حملات إعلامية خليجية وغربية تسعى إلى تكريس فكرة أنّ حزب الله لن يتّجه إلى الرد على عملية الاغتيال الأخيرة، سواء لأسباب داخلية أو نتيجة للظروف الإقليمية المعقّدة.

في المقابل، جاء رد الحزب عبر تصريح رسمي لرئيس المجلس التنفيذي، الشيخ علي دعموش، خلال مراسم تشييع الشهيد الطبطبائي ورفاقه. وقد أكّد دعموش أنّ «القلق الإسرائيلي من ردّ محتمل للحزب قائم، وعليهم أن يبقوا قلقين»، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنّ الحزب «غير معني بأيّ طروحات» في ظل عدم التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار. ورغم ما يحمله هذا التصريح من رسائل سياسية واضحة، إلا أنّه لم يتضمّن إشارات مباشرة حول طبيعة الرد أو توقيته، ما يعكس حرص الحزب على إبقاء خياراته مفتوحة دون الدخول في مسار تصعيدي معلن.

كما اعتبر دعموش أنّ «جميع التنازلات» التي قدّمتها الدولة في سياق الضغوط الدولية «لم تُحدث أي تقدّم»، داعيًا الحكومة إلى تعزيز خطط حماية المواطنين وتحصين السيادة الوطنية. ويُفهم من هذا الخطاب أنّ الحزب يرى أنّ ما يجري على المستوى الدولي لا يهدف إلى تحقيق تسوية شاملة، بل إلى إعادة صياغة الوضع الداخلي بما يخدم المصالح الإسرائيلية ويحدّ من نفوذ المقاومة.

على الصعيد الدبلوماسي، يستعد لبنان لأسبوع حافل بالاتصالات، خصوصًا في ظل الحديث عن اجتماع محتمل في باريس يجري الإعداد له بتنسيق فرنسي ـ سعودي، وبمشاركة أميركية. إلا أنّ المعطيات تشير إلى وجود جمود واضح في التواصل بين الجانب اللبناني والإدارة الأميركية، ما يدل على أنّ المساعي القائمة لا تزال في مرحلة بلورة الإطارات العامة ولم تصل بعد إلى مستوى مقترحات عملية قابلة للتنفيذ.

أما في الجانب الإسرائيلي، فيستمر التصعيد الخطابي، إذ صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، بأنّ «حزب الله يتسلّح بوتيرة تفوق عمليات نزع السلاح»، في محاولة لتبرير أيّ خطوات عسكرية مقبلة أو للضغط على الدول المعنية بملف الجنوب. كما نقل صحافيون مقرّبون من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنّ مسؤولين أميركيين يشجعون إسرائيل على «تعظيم الضغط العسكري»، ما يؤكّد أنّ واشنطن ترى في التوتر الحالي فرصة لإعادة ترتيب أولويات الإقليم وليس فقط إدارة ملف الحدود.

هذه المؤشرات جميعها تُظهر أنّ إسرائيل تتعامل مع الوضع في لبنان من منظور استراتيجي مرتبط مباشرة بتطورات غزة والضفة، وترى أنّ أي تغيير في معادلة الجنوب سينعكس إيجابًا على موقعها التفاوضي. ومع ذلك، فإنّ إسرائيل لا تُظهر حتى الآن استعدادًا لعمل عسكري واسع، نظرًا لحجم التحديات التي تواجهها على جبهاتها الأخرى، ولأنّ أي مواجهة شاملة مع حزب الله قد تحمل انعكاسات خطرة على جبهتها الداخلية.

في هذا السياق، يُطرح سؤال مركزي: هل تتجه إسرائيل نحو ضربة كبيرة؟

القراءة الموضوعية للواقع تشير إلى أنّ هذا الاحتمال، ورغم حضوره في النقاشات، يبقى ضعيفًا في المرحلة الراهنة. فإسرائيل تعاني من ضغط عسكري مستمر في غزة، ومن تحديات سياسية داخلية حادّة، ومن هشاشة في الجبهة الداخلية تجعل أيّ حرب واسعة مغامرة يصعب التحكم بمسارها. وبالتالي، يبدو أنّ تل أبيب تميل إلى استخدام التصعيد الكلامي بهدف الضغط السياسي، وليس بوصفه مقدّمة لعمل عسكري كبير.

ورغم ذلك، يبقى خيار «العمليات المحدودة» قائمًا، حيث قد تسعى إسرائيل إلى تنفيذ خطوة محسوبة لتحسين وضعها التفاوضي أو لإرسال رسالة ردعية. إلا أنّ مثل هذه العمليات تبقى محكومة بعامل دقيق: قدرة الطرف الآخر على استيعاب الضربة وعدم تحويلها إلى مواجهة أكبر.

وفي حال قرّر حزب الله الرد، ما هو السيناريو الأكثر ترجيحًا؟

بالنظر إلى طبيعة المرحلة والحسابات المعقّدة التي تحكم الساحة اللبنانية، يبدو أنّ الحزب، رغم تمسكه بمعادلة الردع، قد يميل إلى عدم تنفيذ رد كبير، أو إلى الاكتفاء برد محدود يراعي التوازنات الحالية. فالحزب يدرك أنّ أي تصعيد واسع سيضع لبنان أمام تحديات إضافية، في وقت يعاني البلد من ظروف اقتصادية حساسة ومن أوضاع اجتماعية هشة. كما أنّ البيئة الإقليمية، بما تحمله من تشابك في الملفات، تجعل خيار الرد الكبير أقل فائدة وأكثر مخاطرة.

السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن يبقى الرد، إن وقع، ضمن الحدود التقليدية التي لا تؤدي إلى تغيير قواعد الاشتباك القائمة. مثل هذا الرد يسمح للحزب بالحفاظ على معادلة الردع الرمزية دون الانزلاق إلى مسار تصعيدي واسع. وفي المقابل، قد تكتفي إسرائيل بردّ محدود أو رمزي، بما يتيح للطرفين الخروج من دائرة التوتر من دون خسارة سياسية مباشرة.

أما احتمال الرد الكبير أو النوعي، فهو قائم نظريًا، لكنه لا يبدو متوافقًا مع القراءة السياسية التي يعتمدها الحزب في هذه المرحلة، ولا مع الظروف الإقليمية والدولية التي تتجه أكثر نحو محاولات الاحتواء لا التصعيد.

الخلاصة:

المشهد الإقليمي واللبناني الحالي يتميّز بدرجة عالية من الحساسية، لكنّه لا يشير إلى نية واضحة لدى أي من الطرفين للدخول في مواجهة واسعة. إسرائيل تلوّح بالتصعيد لكنها غير مهيّأة لحرب كبيرة، وحزب الله يرفض الاغتيالات لكنه يُدرك تكلفة التصعيد في ظل الظروف الراهنة. وعليه، تبدو المرحلة المقبلة محكومة بمسار من الضغوط المدارة والرسائل المتبادلة، مع ميل واضح لدى الطرفين إلى إبقاء الأمور ضمن الحدود التي تمنع انفجارًا واسعًا.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى