أفاعي الجمهوريّة (نبيه البرجي)

الحوارنيوز – صحافة
تحت هِذا العنوان كتب نبيه البرجي في صحيفة الديار يقول:
كانت ميلينا ميركوري، وزيرة الثقافة في اليونان، والنجمة الهوليوودية المناضلة ضد حكم الكولونيلات في بلدها، تصف هذا النوع من الكائنات البشرية بـ “جرذان الجمهورية”. الرئيس جوزف عون وصفهم ضمناً، بـ “أفاعي الجمهورية”، وان كانت تليق بهم لحقارتهم، صفة “عناكب الجمهورية”. قال “مشكلتنا، كما ذكر لي بعض المسؤولين الأميركيين، أن بعض اللبنانيين الذين يقصدون الولايات المتحدة يبخون سماً على بعضهم بعضا، وهم مصدر الأخبار السيئة”.
هذا الكلام جاء بعد زيارة وفد وزارة الخزانة الأميركية، بالمخالب الفولاذية، لبيروت، بعدما بات معلوماً أن بعض زوار واشنطن، وبينهم رؤساء أحزاب ونواب وسياسيون ينقلون الى الدوائر الأميركية المعنية كلاماً “مفبركاً” ومروعاً. من بين هذا الكلام اتهام بعض المسؤولين ممن يشغلون مواقع حساسة، بغض الطرف، أو حتى بتسهيل عمليات وصول المساعدات المالية الى حزب الله، مع أن هؤلاء يلعقون حتى أحذية بعض المسؤولين العرب، للحصول على المال حفاظاً على هالتهم السياسية والطائفية …
لم يكن رئيس الجمهورية ليستخدم تعبير “بخ السموم” لو لم يكن الكلام الذي ينقل الى الأميركيين، يصيب صدقية الدولة اللبنانية في الصميم، ما يمثل ذروة البشاعة الأخلاقية التي جعلت الأميركيين أنفسهم ينقلون ذلك الكلام الى القصر، ودون أن نغفل اتصال هؤلاء “الأفاعي” بأركان “اللوبي اليهودي”، وعرض خدماتهم عليه، بذريعة المصلحة المشتركة في مواجهة الخطر الذي يمثله حزب الله على كل من “اسرائيل” ولبنان، والى حد نقل معلومات لا أساس لها من الصحة حول النشاطات العسكرية للحزب، ما يستند اليه “الاسرائيليون” للمضي في سياسة التصعيد، ان على المستوى العسكري أو على المستوى السياسي، ودائماً في اتجاه محاولة تفجير الساحة الداخلية .
في البلدان الأخرى، يعتبر مثل هذا العمل كـ “الخيانة العظمى”، وخصوصاً أن المسألة تتعلق بأمن الدولة، وحتى بسيادة الدولة باستثارة عداء دولة أخرى ضدها، أو ضد أي مكون من مكوناتها، ودون أن يكون خفياً ما يربط بين بعض الشخصيات السياسية والحزبية، بأكثر الشخصيات الأميركية تعصباً “لاسرائيل” ان في تلة الكابيتول أو في الدوائر التنفيذية المختصة، ناهيك بعلاقات ناشطين أميركيين من أصل لبناني مع السفارة الاسرائيلية في واشنطن، وتواصل هؤلاء مع جهات لبنانية .
آفة النميمة التي اشار اليها الرئيس جوزف عون ليست غريبة عن العقل الطائفي في لبنان، ومنذ أيام الأمير فخر الدين المعني في القرن السابع عشر، لتبلغ هذه الآفة ذروتها ابان القرن التاسع عشر، وصولاً الى أيامنا هذه، حين أخذت النميمة شكل التبعية، وحتى شكل العمالة لمرجعية اقليمية أو دولية.
هذا ما يجعل لبنان دولة ملتبسة بقدر ما هو وطن ملتبس. وكنا قد اشرنا الى رأي الروائي الأميركي دوغلاس كنيدي الذي قال، بعد زيارة للبنان، “هناك لا تعرف اذا كنت في الجنة أم في النار”، لنستذكر أيضاً قول دين راون، مبعوث هنري كيسنجر الى لبنان عام 1976، “لم أكن أدري اذا كنت أتكلم مع الملائكة أم مع الشياطين”. الشياطين بطبيعة الحال اذا لاحظنا مدى الهمجية التي مورست أثناء الحرب الأهلية.
لطالما كتب عن استشراء “ثقافة التفاهة” عندنا، الآن “ثقافة الحقارة” كرديف لـ “ثقافة الخيانة، لكون لبنان، وكما وصفه المطران الجليل والفذ “واقع ركام لا واقع جماعة”. كل ما يجري الآن، لا يعدو كونه عملية جراحية داخل الركام. وهذه مصيبتنا الكبرى. وكان الرئيس الفرنسي الراحل (2020 ) قد تحدث لنا، حين كان رئيساً للجنة الدستور في الاتحاد الأوروبي، عن غياب الضمير السياسي في دولنا، وكذلك عن غياب الضمير الاجتماعي في مجتمعاتنا.
هذا يعني أننا مجرد قصاصات سياسية أو طائفية، تعيش حالة من التيه ان داخل التاريخ، أو داخل الجغرافيا. من هنا كانت ولا تزال أبوابنا مشرعة على كل اشكال الرياح، الآن الرياح السوداء. هنا نقطة القوة في “اسرائيل”، وحيث البنية السوسيولوجية الصلبة والمتراصة، والبنية السوسيولوجية اللبنانية المفككة والمتناثرة. وقد لاحظنا بأي غطرسة، بما في ذلك الغطرسة الدموية، التي تتعامل بها حكومة نتنياهو معنا، والى الحد الذي لم نعد نستطيع أن نفرق فيه بين مفهومنا للحرب ومفهومنا للسلام.
غالبية العهود التي انقضت جعلت منا الصدى (الصدى النحاسي) للمنطقة، التي تتراقص بين جاذبية الغيب وجاذبية الغيبوبة. كيف للرئيس جوزف عون أن ينقل لبنان من حال الى حال، وسط هذه الارتجاجات الحادة على امتداد الشرق الأوسط، ما دامت الطوائف ودون استثناء هي الدويلات داخل الدولة، وما دام اساقفة الطوائف أكانوا زمنيين أو لا زمنيين، هم أنصاف الآلهة الذين يحكمون أنصاف البشر …
لا نتصور أن “أفاعي الجمهورية” يمكن أن يتحولوا الى بناة الجمهورية. هؤلاء الذين يفرشون الطريق بالورود أمام بنيامين نتنياهو، الذي يفرش لطريق بالجثث أمام دونالد ترامب، لكي يدخل الى الشرق الأوسط مثلما دخل الاسكندر ذو القرنين. للاسكندر الأميركي قرن واحد فقط …



