
زينب اسماعيل – الحوارنيوز خاص

فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك لم يكن صدفة انتخابية، بل حدثًا سياسيًا وثقافيًا بامتياز. أن يتولّى هذا المنصب شاب يساري، مسلم، من أصول مهاجرة، في مدينة تُعتبر قلب الرأسمالية الأميركية ومركز نفوذ المال والإعلام، يعني أن هناك تحوّلًا عميقًا بدأ يتشكّل في وعي الناخب الأميركي، ولو ببطء.
إنه فوز يتجاوز حدود الشخص والمنصب إلى ما هو أبعد: إلى سؤال الهوية الأميركية نفسها، ومن يحق له تمثيلها في زمن الانقسامات والشكوك.
من رمزية الهامش إلى مركز القرار
ينتمي ممداني إلى جيل سياسي جديد وُلد من رحم الهامش: مسلم، شيعي، اشتراكي التوجّه، وناشط في قضايا العدالة الاجتماعية. لم يأتِ من بوابة الحزب الديمقراطي التقليدية، بل من حركةٍ شعبية ترفض تماهي السياسة مع الشركات واللوبيات التي تحكم واشنطن منذ عقود.
بدأ مسيرته ناشطًا في أحياء كوينز الفقيرة، حيث يعيش المهاجرون، واستطاع أن يخلق لغة سياسية جديدة، بسيطة وصادقة، تخاطب الناس بلغتهم اليومية لا بلغة النخب. لم يعد السياسي عنده هو من يملك الأموال أو التحالفات، بل من يملك رؤية أخلاقية وقدرة على تمثيل المهمشين.
فوزه في نيويورك، مدينة التنوع والتناقضات، يعكس أنّ الأميركيين بدأوا يبحثون عن خطابٍ صادق لا يشبه اللغة الباردة للسياسيين المعتادين. لقد تعبوا من وعود الإصلاح الشكلية، ومن سياساتٍ لا تخدم سوى الطبقة الثرية وتُخضع كل شيء لمعيار الربح. لذلك، لم يعد مفاجئًا أن يرى كثير من الناخبين في ممداني تمثيلًا لصوتهم الداخلي، لا بوصفه “مرشح الأقليات”، بل بوصفه مرشح الضمير الإنساني.
الحروب في الشرق الأوسط وصوت الضمير الأميركي
لا يمكن فصل فوز ممداني عن السياق الدولي، خصوصًا بعد الحروب المتواصلة في الشرق الأوسط: العدوان على غزة، التوتر في لبنان، والاحتلال الذي طالما دعمته واشنطن تحت شعار “التحالف الاستراتيجي”.
ففي الأشهر الأخيرة، شهدت الجامعات الأميركية تظاهرات ضخمة تندد بالصهيونية السياسية وبالازدواجية الأخلاقية لواشنطن. تلك المظاهرات لم تكن مجرد حدث طلابي، بل بداية تشكّل وعي جمعي جديد يرى في فلسطين مرآةً للعدالة الغائبة داخل أميركا نفسها.
ومع الوقت، تحوّلت هذه الاحتجاجات إلى وعي انتخابي، إذ أدرك كثير من الشباب أن التغيير لن يأتي من الشارع فقط، بل من صناديق الاقتراع أيضًا.
ممداني كان من الأصوات القليلة داخل المؤسسات الأميركية التي قالت بوضوح: “لا يمكن الحديث عن العدالة ونحن نمول الإبادة في فلسطين.”
هذا الموقف، الذي كان يُعتبر انتحارًا سياسيًا قبل سنوات، أصبح اليوم مصدر قوّة لا ضعف. لقد صار التعبير عن التعاطف مع الفلسطينيين موقفًا أخلاقيًا يحظى باحترام فئات واسعة من المجتمع الأميركي، خصوصًا بين الشباب الجامعيين والناشطين في حقوق الإنسان.
فالمزاج الشعبي تغيّر، لم يعد الناس يقبلون بسهولة روايات الإعلام الموجّه، ولا يصدقون أن أمن إسرائيل يعني تلقائيًا أمن أميركا. لقد بدأوا يرون أن الصهيونية السياسية كانت تمسك بخيوط القرار الأميركي والاقتصاد والإعلام لعقود، وأن التحرّر من هيمنتها ليس قضية شرق أوسطية فقط، بل أميركية داخلية أيضًا.
الولايات الأخرى… هل يتكرر النموذج؟
رغم خصوصية نيويورك، إلا أن فوز ممداني قد يفتح الباب أمام تجربة سياسية جديدة في ولايات أخرى.
فالمدن الكبرى مثل شيكاغو، سان فرانسيسكو، وأتلانتا تشهد أيضًا صعود وجوه يسارية من أصول مهاجرة أو من الأقليات العرقية.
لكن التحدّي الأكبر يبقى في اختراق “الولايات الرمادية”، أي المناطق التي لم تحسم هويتها بين اليمين واليسار. في تلك المناطق، حيث ما زال الخطاب المحافظ مسيطرًا، سيكون الرهان على القيم الإنسانية المشتركة: الكرامة، العدالة، والتعليم والرعاية الصحية كحقوق لا امتيازات.
وهنا قد يكون تأثير ممداني الرمزي هو الأهم: أنه قدّم نموذجًا قابلًا للتكرار، لا يعتمد على الانتماء الحزبي فقط، بل على الخطاب الإنساني والاجتماعي الذي يجمع بين العدالة المحلية والتضامن العالمي.
أميركا تتغيّر من القاعدة لا من القمّة
قد لا تتبدّل السياسة الأميركية الخارجية غدًا، وقد تظلّ مؤسسات النفوذ المالي والعسكري هي اللاعب الأقوى، لكن ما يجري اليوم يذكّرنا بأن التحوّلات الكبرى تبدأ من القاعدة.
جيلٌ جديد من الناخبين، متأثر بمشاهد غزة وبالأزمات الاقتصادية في الداخل، بدأ يرى الترابط بين الظلم الخارجي والفقر الداخلي. يرى أن المليارات التي تُنفق في الحروب هي نفسها التي تُقتطع من التعليم والرعاية الصحية والبنى التحتية.
هذه المقارنة البسيطة، التي كانت غائبة عن وعي الأميركي العادي، أصبحت اليوم أساسًا لحركة فكرية وسياسية جديدة.
فوز ممداني هو إعلان رمزي بأن الشعب الأميركي بدأ يكتشف نفسه من جديد: بدأ يسأل، يشك، ويبحث عن معنى جديد لوطنٍ تعب من الكذب والإنكار.
قد يكون الطريق طويلًا، وقد تحاول المؤسسة الحاكمة احتواء هذا التحوّل، لكن التاريخ يُكتب الآن بلغةٍ مختلفة، لغة الناس، لا النخب.
ربما لم يفز زهران ممداني وحده،
بل فاز جزء من ضمير العالم الذي ظلّ طويلًا محاصرًا بين الخوف والصمت.
فوزه ليس لحظة سياسية عابرة، بل علامة على أن الوعي لا يُهزم إلى الأبد.
حين ينهض الناس في أقصى الأرض ليقولوا “كفى”…
تتبدّل الخرائط، وتبدأ العدالة بالعودة من المنفى،
ولو بخطوة واحدة… من نيويورك.


