أعيدوا مصادر الأموال.. ليعود الاقتصاد اللبناني إلى الحياة (أسامة مشيمش)

بقلم: الدكتور أسامة توفيق مشيمش* – الحوارنيوز
في عالم المحاسبة، يبدأ كل شيء من السؤال الأول الذي يُطرح في أول درس من دروس المحاسبة العامة: من أين تأتي الأموال، وكيف تُستخدم؟ هذا السؤال ليس مجرد قاعدة أكاديمية، بل هو نقطة الانطلاق لأي دورة اقتصادية صحيحة. فمصادر الأموال هي الشرارة الأولى التي تضيء درب الإنتاج، والاستخدام الرشيد لها هو ما يضمن استمرارية النمو والتطور.
لكن إذا أسقطنا هذا المبدأ البسيط على واقع لبنان اليوم، نجد أنفسنا أمام مشهد مغاير تمامًا. فمنذ اندلاع الأزمة المالية والمصرفية، وما تبعها من حرب مدمّرة طالت مناطق واسعة من البلاد، تعطلت الدورة الاقتصادية حتى كادت تتوقف بالكامل. لقد تحولت منابع التمويل إلى سراب، وتبددت الثقة بالنظام المصرفي، وتراجعت القدرة الشرائية إلى مستويات غير مسبوقة.
إن الأزمة المصرفية التي عصفت بلبنان لم تكن مجرد حادث مالي، بل كانت نقطة تحول مأساوية غيّرت البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة. فقد تبخرت أموال المودعين، وتلاشت مدخرات الناس التي جمعوها على مدى عقود. لجأ البعض حينها إلى ما عُرف بـ”تبديل الشيكات” لتسوية حساباتهم المجمدة، في مشهد يعبّر عن عمق الانهيار وانعدام العدالة المالية.
تلك الممارسات لم تكن سوى محاولات ترقيعية لواقع متصدّع، لكنها في الوقت نفسه كشفت هشاشة النظام المالي وأظهرت غياب المساءلة والشفافية. ومع مرور الوقت، دخل الاقتصاد في مرحلة ضمور حادّ، فتراجعت الحركة التجارية، وتوقفت الاستثمارات، وارتفعت نسب البطالة، فيما تمدد التضخم ليأكل ما تبقى من قدرة المواطنين على الصمود.
ورغم هذا الواقع القاتم، لم تأتِ السياسات الحكومية بالحلول المطلوبة. بل ذهبت الدولة إلى خيار رفع الضرائب تحت عنوان “مكافحة التهرب الضريبي”، مستهدفة بشكل أساسي القطاع المتوسط والشركات الصغيرة، وهي الفئة التي تشكل العمود الفقري لأي اقتصاد حقيقي. بدل أن تكون هذه الشركات جزءاً من خطة إنعاش، أصبحت ضحية لسياسات جباية عاجزة عن رؤية الصورة الكاملة.
إن تحميل المؤسسات المنتجة أعباء ضريبية إضافية في مرحلة ركود خانق، لا يمكن اعتباره إصلاحاً مالياً، بل هو إمعان في إضعاف القطاع الخاص وإجهاض لما تبقى من نبض اقتصادي. فالدولة لا تُبنى من الضرائب وحدها، بل من تحفيز الاستثمار وإعادة الثقة بالدورة المالية.
وإذا كانت الحكومة تبحث فعلاً عن موارد لتغذية رواتب موظفيها وتمويل مشاريعها، فإن الخطوة الأولى ليست في الجباية، بل في إعادة الأموال إلى أصحابها. إن ودائع اللبنانيين في المصارف تمثل شريان الحياة للاقتصاد الوطني، وعودتها إلى التداول تعني إعادة تحريك السوق، وتشغيل المصانع، وتمويل التجارة، وتنشيط الدورة الاقتصادية من جديد.
كل ما يحتاجه السوق اللبناني، بحسب تقديرات واقعية، لا يتجاوز أحد عشر مليار دولار، وهي كفيلة بإعادة الاقتصاد إلى مسار النمو خلال فترة وجيزة. المبلغ ليس خيالياً، بل هو موجود فعلياً في النظام المصرفي، لكنه محتجز في حسابات مجمّدة وقيود غير مبررة. إعادة هذه الأموال إلى أصحابها تعني ببساطة إعادة مصدر التمويل الأساسي إلى مكانه الطبيعي: في يد المنتجين والمستهلكين.
لقد أثبتت التجارب في مختلف الدول أن الاقتصاد لا يُنهض بالأوامر ولا بالضرائب، بل بالثقة. والثقة لا تُستعاد بالخطابات أو الإجراءات الشكلية، وإنما بالعدالة المالية والشفافية والمحاسبة. فحين يشعر المواطن أن الدولة تحمي أمواله وتحترم حقوقه، فإنه يستثمر من جديد، ويستهلك بثقة، ويدفع ضرائبه طوعاً لا قسراً.
من هنا، فإن النداء الأهم اليوم ليس فقط إلى صانعي القرار، بل إلى كل من يعنيه مستقبل هذا الوطن:
أعيدوا مصادر الأموال إلى دورتها الطبيعية، لتعود الحياة إلى الاقتصاد اللبناني.
فلبنان لا يحتاج إلى معجزات، بل إلى إرادة سياسية صادقة تعترف بالخطأ وتبدأ بالإصلاح من جذوره. حينها فقط يمكننا أن نعيد صياغة السؤال المحاسبي الأول بطريقة مختلفة:
ليس من أين تأتي الأموال؟ بل كيف نحافظ عليها ونستخدمها لبناء وطن يستحق الحياة؟
*باحث وأستاذ في العلوم المالية والمحاسبية



