
د. ميلاد السبعلي – الحوارنيوز
المقدمة – دروس ما بعد الحرب العالمية الثانية

بعد الحرب العالمية الثانية، خضعت ألمانيا واليابان لواحدة من أضخم عمليات إعادة الهندسة الفكرية والاجتماعية في التاريخ الحديث. لم يكن الهدف العسكري وحده هو ما حسم الصراع، بل ما تلاه من عملية “إعادة بناء الإنسان” — اقتلاع الجذور الفكرية المعادية للغرب، وإعادة صياغة التعليم والثقافة والإعلام، وربط التحديث الاقتصادي بالتحول القيمي.
في ألمانيا، حُظرت الرموز النازية، وأُعيدت كتابة المناهج المدرسية، وحلّت الديمقراطية محلّ النزعة العسكرية القومية.
وفي اليابان، أُلغيت البنية الإمبراطورية التي قدّست الحرب، وأُعيد توجيه التعليم نحو الانفتاح والحداثة الاقتصادية. ومع مرور الزمن، وبدعم أميركي مباشر، نمت هاتان الدولتان لتصبحا نموذجين في “التحول من العداء إلى التحالف”.
هذه التجربة هي المرجع الضمني لما يسميه بعض المفكرين والسياسيين اليوم “اجتثاث النازية في غزة” — أي إعادة تشكيل مجتمع بأكمله، ثقافةً وتعليماً وسلوكاً، قبل السماح له بتقرير مصيره.
غزة: مشروع “اجتثاث النازية” و”تجميد” الحق في تقرير المصير
تقوم الفكرة المتداولة في بعض الأوساط الغربية والإسرائيلية على أن إعادة إعمار غزة لا يمكن أن تبدأ من البناء المادي، بل من “التطهير الأيديولوجي”. فبعد القضاء على حما.س عسكرياً، أو إضعافها الى حد كبير، يُطرح سيناريو يمتدّ بين 30 و50 عاماً من “الوصاية الدولية” أو الإدارة الأميركية، تُمنع فيه أي سلطة فلسطينية مستقلة، الا بحدود تكنوقراطية محددة، ويُجمّد فيه حق السكان في تقرير المصير إلى أن “تنشأ أجيال جديدة” تربّت على قيم مختلفة، تقرر هي مصيرها.
يتحدث المشروع عن:
– إعادة هندسة التعليم وإلغاء أي مضمون يُعبّر عن المقا.ومة أو الرفض للاحتلال.
– تحويل الساحل إلى “ريفييرا” اقتصادية وسياحية مرتبطة بشبكات الاستثمار الغربي والخليجي.
– إدارة أجنبية مباشرة أو غير مباشرة تخضع للقانون الأميركي أو لنظام وصاية غربي.
– تطبيع تدريجي للوعي الجمعي عبر المناهج والإعلام، بحيث يتبدّل مفهوم “العدو” إلى “الشريك”.
خطة مشابهة تُطبّق تدريجياً في الضفة الغربية، عبر سياسات اقتصادية وإدارية تجعل السلطة الفلسطينية طرفاً مقبولاً في مشروع “السلام الاقتصادي” مقابل تجميد أي حديث عن دولة مستقلة.
مصر والأردن: ركيزتا الاستقرار المضمون
من منظور استراتيجي لأصحاب هذا المشروع، تمثّل مصر والأردن “الاستثناء الناجح” في معادلة التطبيع. فمنذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل (1979 في مصر و1994 في الأردن)، استطاع البلدان الحفاظ على استقرار سياسي نسبي، وتعاون أمني متين مع الغرب.
ورغم أن المزاج الشعبي ما زال متعاطفاً بقوة مع القضية الفلسطينية، فإن هذا التعاطف يُدار إعلامياً وأمنياً ضمن حدود لا تهدد النظام. ولهذا تُعتبر القاهرة وعمّان “نموذجين” يمكن توسيع تجربتهما لاحقاً إلى دول أخرى.
المرحلة الثانية: تفكيك الأيديولوجيات المعادية لإسرائيل
الهاجس الأكبر لإسرائيل والولايات المتحدة بعد غزة هو البيئات الفكرية والسياسية في لبنان وسوريا والعراق، حيث تتجذر تيارات مقاومة — إسلامية كانت أو قومية — تعتبر إسرائيل كياناً احتلالياً.
في هذه الدول، لا يمكن تطبيق خطة مباشرة “لاجتثاث النازية” مباشرة كالتي تُطرح لغزة، لكن يجري العمل على نموذج أكثر ليونة:
- الإعلام والتعليم: إعادة صياغة الخطاب العام لتصوير الصراع مع إسرائيل كعبء تاريخي، والترويج لخطاب “السلام الواقعي” الذي يَعِد بالازدهار مقابل التخلي عن “الأفكار القديمة”.
في لبنان، بدأت قنوات محلية وسياسيون بتبنّي خطاب “السلام مقابل النمو”، وبتحويل المقا.ومة إلى مسألة داخلية يمكن التفاوض عليها.
في سوريا، يُظهر النظام الجديد استعداداً لإبرام تفاهمات أمنية مع إسرائيل، والتأكيد أنه لا يتبنّى أيديولوجيا معادية، بل يسعى إلى “الاستقرار والتنمية”.
في العراق، تتراوح السياسة بين ضبط الميليشيات الموالية لإيران وإعادة ربط البلاد اقتصادياً بالمحور الغربي، تحت شعار “الاستقلال المتوازن”.
- الأدوات الناعمة:
برامج تعليمية جديدة، وتعاون أكاديمي غربي.
حملات إعلامية وثقافية تشجّع على “ثقافة السلام”.
مبادرات تنموية بتمويل خارجي مقابل التنازل عن المواقف المعادية لإسرائيل.
- الأدوات الخشنة عند الحاجة:
ضربات عسكرية محدودة.
ضغوط مالية وعقوبات.
ممرات نفوذ عسكرية أو اقتصادية تضمن السيطرة الاستراتيجية دون احتلال مباشر.
الهدف هو ولادة جيل جديد في هذه الدول، “منزوع الأيديولوجيا”، يرى في الغرب شريكاً وفي إسرائيل واقعاً لا جدال فيه.
الخليج العربي: التطبيع كرافعة اقتصادية وثقافية
في دول الخليج، الاستراتيجية مختلفة تماماً. فالقوة الناعمة تتقدّم على القسر.
الاتفاقات الإبراهيمية Abraham Accords) ) أرست نموذج “السلام المربح” — تعاون أمني وتقني واقتصادي يُقدَّم كطريق للحداثة. ومع مرور الوقت، يُنتظر أن تتطور هذه العلاقات إلى تطبيع ثقافي وإعلامي، حيث يصبح التعاون مع إسرائيل جزءاً من “المشهد الطبيعي” في التنمية الخليجية، خصوصاً مع انشغال بقية العالم العربي بالأزمات الداخلية.
هكذا يُعاد رسم الخريطة الثقافية والسياسية للمنطقة عبر الإغراء الاقتصادي بدل الإكراه العسكري.
النتيجة العامة: تجميد الحقوق وتبديل الوعي
بموجب هذا التصور، تُجمّد الحقوق الفلسطينية لعقود، ريثما “تُعاد تربية المجتمع”، وتُحوّل المقا.ومة إلى قضية ماضية قديمة تراثية.
السلطة الفلسطينية تقبل عملياً هذا المسار، طالما أنها تبقى طرفاً معترفاً به دولياً، فيما يُحاصر حما.س سياسياً وعسكرياً إلى أن تُستأصل.
في المقابل، تروّج الحكومات العربية للفكرة باعتبارها طريقاً إلى التنمية والاستقرار، حتى وإن كان الثمن هو تأجيل العدالة والكرامة الوطنية.
خاتمة – كيف تتم مواجهة هذا المشروع؟
مواجهة هذا المخطط لا تكون بالشعارات، بل بفكر نقدي واستراتيجيات متجددة وخطط عملية معاكسة. وهذا يجب التصدي له من خلال عمل مؤسساتي معاصر. ولكن لا بأس من التفكير بما يمكن فعله مبدئيا.
فالمعركة اليوم لم تعد على مستوى السلاح والجغرافيا فقط، بل انتقلت إلى ميادين أكثر عمقاً: الوعي، والتعليم، والإعلام، والاقتصاد، والثقافة. ومن هنا، يجب أن يتكوّن مشروع المواجهة على عدّة مستويات مترابطة:
- إعادة بناء الوعي الحديث
لا بد من ترسيخ فكرٍ نقدي قادر على قراءة الواقع بعيداً عن الانفعال، يميّز بين السلام المفروض والحقوق والعدالة، بين التنمية التابعة والتنمية المستقلة. المطلوب جيل يفهم أن المواجهة الفكرية لا تقلّ أهمية عن المقا.ومة الميدانية، وأن حماية الوعي من التزييف أخطر من حماية الحدود من الاختراق.
- تجديد التعليم والإعلام
إن إعادة صياغة المناهج يجب أن تكون مسؤولية وطنية، لا أداة أجنبية. المطلوب تعليمٌ يُعيد الثقة بالذات وبالشعب، ويعلّم التفكير لا التلقين، ويُخرج طلاباً باحثين عن الحقيقة لا مكرّرين لشعارات الماضي أو منبهَرين بنماذج الغير، ويمتلكون ادوات العصر من علوم وتقنيات حديثة. ويبني مواطنا فاعلا لديه وعي عميق لحقيقته الاجتماعية وحقوقه وواجباته.
أما الإعلام، فعليه أن يتحول من منبرٍ لتكرار الخطاب الانفعالي إلى ساحةٍ لتشكيل رأيٍ عام واعٍ، يواجه التضليل ويفكك الخطاب التطبيعي بذكاءٍ لا بصراخ.
- المواجهة الاقتصادية والتنموية
حين يُربط التطبيع بالازدهار، تصبح التنمية نفسها سلاحاً ذا حدين. المطلوب بناء اقتصاد متحرر بالمعنى العصري — يعتمد على الابتكار، والتكامل العربي، والتكنولوجيا، والتعليم المهني، وريادة الأعمال — لا على المعونات والاستثمارات المشروطة. التنمية الحقيقية هي التي تمنح الشعوب قوة تفاوض، لا حاجةً دائمة للرضوخ.
- تجديد الفكر والخطاب والأدوات
لا يمكن مواجهة مشروع “نزع الأيديولوجيا” بفكرٍ جامد أو بخطابٍ مكرر. المطلوب نهضة فكرية جديدة تُعيد تعريف القيم القومية والاجتماعية والإنسانية بلغة العصر، وتنتقل من التلقين إلى التحليل، ومن الانفعال إلى التخطيط.
إنّ تجديد الفكر يعني التحرّر من قوالب الماضي دون التخلّي عن جوهر الهوية والقضية، وبناء خطابٍ عقلانيٍّ قادر على إقناع الأجيال الشابة والمنفتحين على العالم بلغة منطقية وإنسانية لا شعاراتية.
أمّا تجديد الأدوات، فيقتضي توظيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والإعلام الرقمي في نشر الوعي والفكر النقدي، وبناء شبكات تفاعل معرفي تربط الشباب بالمفكرين والمبدعين والعلماء في الداخل والاغتراب، بحيث يتحول الفضاء الرقمي من أداة اختراق إلى مساحة تحصين وتنوير.
فالفكر المتجدد لا يكتفي بالمقا.ومة النظرية، بل يصنع أدواته، ويبتكر وسائله، ليكون حاضراً في معركة الوعي التي ستحدد مصير المنطقة لعقود قادمة.
المطلوب اذا هو مشروع نهوض متكامل في كل دول المنطقة، يعيد لها مكانتها كفاعلٍ حضاري لا كموضوعٍ لإعادة التشكيل.
- بناء التحالفات الثقافية والعلمية الجديدة
بدلاً من انتظار دعم دول محددة في الغرب أو اسرائيل، يمكن للعرب والمسلمين والشرقيين عموماً أن يخلقوا شبكات تعاون في البحث، والتعليم، والتكنولوجيا، والثقافة، تربط العقول لا الأنظمة، وتؤسس لمنظومة استقلال معرفي واقتصادي على المدى الطويل، خاصة مع التطور السريع الذي تشهده العديد من الدول الآسيوية مثل الصين والهند وسنغافورة وغيرها.
إنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في خطط “اجتثاث النازية” أو “التطبيع الثقافي” أو “نزع الايديولوجيا” فحسب، بل في استسلام العقول لفكرة أنّ لا بديل عنها.
فحين يقتنع الجيل الجديد بأنّ الخضوع قدر، يصبح الاحتلال فكرياً حتى في غياب الجيوش.
أما النهضة، فتبدأ من وعيٍ يرى في الإنسان والمجتمع عندنا طاقةً خَلّاقة قادرة على التغيير والإبداع والابتكار وإعادة بناء المستقبل — مستقبلٍ يُصاغ بإرادته، لا بإرادة الآخرين.
*خبير تربوي ورئيس مجلس إدارة Global Education – رئيس مؤسسة سعادة للثقافة.



