عن الحزب الشيوعي، مهدي عامل، حسين مروة وآخرين: حين صمت !(زينب إسماعيل)

زينب اسماعيل – الحوارنيوز
مئةٌ وسنةٌ وواحدة على تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، الحزب الذي وُلد دفاعًا عن العمال والفلاحين، وعن كل إنسانٍ يؤمن بالمساواة والعدالة.
منذ بداياته، حمل راية الفكر اليساري المقاوم، المتحرّر من كل قيدٍ طائفي أو مذهبي أو تقليدي، وأسّس «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» للدفاع عن الوطن.
جبهةٌ لا غبار على تاريخها، قدّمت الشهداء والأسرى من أجل فكرةٍ واحدة: أن الوطن يستحقّ أن يُدافع عنه بالكرامة لا بالولاء.
هذا الحزب الذي أنجب المفكرين والمقاومين، لم ولن ينتهي ما دام الفكر نفسه حيًّا.
عام 1987 لم يكن عامًا عاديًا.
كان عامًا تُطفأ فيه آخر شموع الفكر الثوري.
من بيروت إلى فيينا، ومن واغادوغو إلى بوغوتا، انطلقت رصاصاتٌ متعددة باتجاه حلمٍ واحد — حلم العدالة والمساواة وتحرّر الإنسان من قيدي الاستبداد والرأسمال.
من قتل مهدي عامل؟
سؤالٌ يتردّد في أوساط اليسار، ويجد دائمًا الإجابة ذاتها: القوى الظلامية.
في بيروت، سقط مهدي عامل.
لم يكن يسير وحيدًا؛ كانت ترافقه كل الكتب التي أرادت أن تفهم الواقع لتغيّره.
اغتيل لأنه فكّك الطائفية كما يفكّك عالمُ الذرّةِ ذراتها، ولأنه رأى في الطبقة العاملة خلاصًا من تقسيمات الطوائف والمذاهب.
وفي العام نفسه، وقبله بأشهر، سقط حسين مروة في منزله — شيخٌ شيوعيّ كتب عن التراث بعينٍ ماركسية، فصار دمه ثمنًا لمعركةٍ بين العقل والخوف.
وفي المنفى الأوروبي، أُسكت حميد رضا چيتغر برصاصٍ غريبٍ يشبه كل الرصاص.
وفي كولومبيا، رحل خايمي باردو ليال.
وفي إفريقيا، قطعوا صوت توماس سانكارا، الرجل الذي أراد لبلده أن يقف منتصبًا بدلًا من أن يركع أمام القروض الغربية.
خمس رصاصاتٍ في خمس مدن، لكنها تتحدث بلغةٍ واحدة:
> «اصمتوا… لا تتحدثوا عن المساواة.»
ربما لم يصدر قرارٌ مركزيّ يأمر بهذه الاغتيالات، لكنّ مرحلةً كاملة من التاريخ اتحدت ضدّ الفكر اليساري.
النيوليبرالية كانت تصعد كوحشٍ جديد، والاتحاد السوفييتي ينهار، والأنظمة في الشرق والغرب توافقت — ولو ضمنيًّا — على أمرٍ واحد:
أن المفكّر الذي يحرّض على الوعي أخطر من المقاتل الذي يحمل بندقية.
وفي هذا المناخ، لم تكن الرصاصات وحدها وسيلة القتل.
فقد ارتعبت المشاريع الغربية من الفكر التحرّري القائم على مبدأ العدالة الاجتماعية، فأنشأت في كل منطقةٍ أدواتها لتدنيس الفكر الحرّ.
في المجتمعات المتديّنة، غذّت نموّ الحركات الدينية وأدخلتها في الصراعات السياسية، لتصبح حاجزًا بين الإنسان وفكر التحرّر.
هذه الحركات رفضت أي قراءة عقلانية أو نقدية للواقع، فكان نصيب المفكرين فيها إمّا الاغتيال أو السجن أو الصمت المفروض.
أما في الدول المتقدّمة، فشوّهت صورة اليسار وقدّمته كتهديدٍ للفردية وحرية السوق، وصُوّر اليساري كعدوٍّ للملكية، الخارجِ عن القانون، القادمِ ليسلب الناس ما يملكونه.
وهكذا تحوّل الصراع من مواجهةٍ بين فكرين إلى معركةٍ على الوعي ذاته.
الرصاصة التي أُطلقت على مهدي عامل لم تكن عمياء؛ كانت تعرف تمامًا أن من تُصوَّب إليه يحارب بالكلمة لا بالبندقية، وأن كتبه كانت تهزّ ركائز السلطة والاحتلال والطائفية معًا.
اغتيل بيدٍ داخلية، لكنها امتدادٌ لظلامٍ عالميّ منظَّم أراد طمس فكرة العدالة لصالح اقتصاد السوق، وإسكات الفكر النقدي لصالح الولاء الأعمى.
لم يكن اغتيال مهدي عامل حدثًا سياسيًا فحسب، بل لحظةَ انهيارٍ رمزيةٍ لمرحلةٍ كاملةٍ من الحلم اليساري العربي والعالمي.
ومع كل مفكرٍ يُسكت، تُغتال فكرة — فكرة أن التغيير ممكن بالكلمة.
لكنّ التاريخ، رغم الدم، عنيد.
فكل رصاصةٍ تُطلق على فكر، تولد منها كتبٌ جديدة، وجيلٌ جديد يقرأ في الضوء الخافت ما كُتب بالدم.
وما بين الرصاصة والكلمة، ينتصر الوعي دائمًا… ولو بعد حين.



