من التلوّث إلى الطّائفية.. كيف تحوّل وسائل التّواصل الاجتماعيّ مسألةً تقنيّةً إلى صراع هويّات؟(سعيد عيسى)

د.سعيد عيسى – الحوارنيوز
تحوّلت أزمة مياه تنورين من قضيّةٍ صحّيّةٍ إداريّةٍ إلى عاصفةٍ هوياتيّةٍ طائفيّةٍ، لم تكن وسائل التّواصل الاجتماعيّ مجرّد ناقلٍ لها، بل كانت وقودها ومُضَخّمها ومسرح أحداثها الرّئيسيّ. في بلدٍ متعدّد الطّوائف مثل لبنان، لم يعد الفضاء الافتراضيّ مجرّد انعكاسٍ للواقع، بل أصبح فاعلاً أساسيّاً في صناعة الرّأي العام وتشكيله. تطرح هذه الأزمة إشكاليّة عميقة، إذ كيف يمكن أن تتحوّل منصّات التّواصل من أدوات اتّصالٍ إلى أدوات انفصالٍ، وتضخيمٍ للانقسامات الطّائفية؟ وما الآليات التي تمكّنها من تحويل خلافٍ تقنيٍّ إلى حرب هويّات؟
مساء 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025، أصدرت وزارة الصّحة اللّبنانيّة قراراً مفاجئاً بوقف عمل شركة “ينابيع مياه تنّورين” وسحب منتجاتها من الأسواق. القرار وقّعه وزير الزراعة نزار هاني (الدرزي) بصفته وزيراً للصحة بالوكالة بسبب وجود الوزير الأصيل ركان ناصر الدين (الشّيعي) خارج البلاد. البيان أوضح أنّ القرار جاء بعد فحوصاتٍ مخبريّةٍ أظهرت وجود بكتيريا “الزّائفة الزّنجاريّة” في بعض العبوات، والتي تشكّل خطراً على الأطفال وكبار السن ومرضى نقص المناعة.
لم ينتظر الخبر طريقه ليمرّ عبر القنوات الرّسميّة، بل تحوّل فوراً إلى “ترند” على منصّات التّواصل الاجتماعيّ، فتناقلته صفحات الأخبار والحسابات المؤثّرة بسرعةٍ فائقةٍ. كانت الصّدمة واضحةً في التّعليقات والمنشورات الأولى، إذ كيف لأشهر علامة مياهٍ في لبنان، التي يوصى بها في المستشفيات والعيادات، أن تكون ملوّثة؟
تتجلى خطورة منصات التّواصل الاجتماعيّ في الأزمات من خلال سرعة الانتشار غير المسبوقة، حيث يسهّل تصميم هذه المنصّات نشر المعلومات بسرعةٍ فائقةٍ، إذ تعطي الخوارزميّات الأولويّة للمحتوى الجذّاب والمثير للجدل بغض النّظر عن دقّته. ويقود هذا الانتشار السّريع إلى تفعيل الهويّات الجَمْعيّة؛ فتنحو القضيّة بالانزياح من سؤالٍ موضوعيٍّ (كـ “هل المياه ملوّثة؟” في حالة تنورين) إلى سؤالٍ هويّاتيّ (“من يستهدف من؟”)، حيث أصبحت قضية تنّورين في التمثيل الجمعيّ رمزاً للهويّة المسيحيّة التي يرى البعض أنها تتعرّض للاستهداف. وبسبب هذا التحوّل، أصبح النقاش يدور حول الانزياح من المحتوى إلى السّياق؛ فلم يعد النّقاش حول البكتيريا ومخاطرها الصّحية، بل حول الخلفيّات الطّائفيّة للقائمين على القرار والشّركة، مما يفاقم الانقسام المجتمعيّ بدلاً من معالجة المشكلة الأساسيّة.
سوسيولوجيا التّفاعل الرّقميّ.. الهجوم والهجوم المضاد
تشكّلت على وسائل التّواصل خطاباتٌ متعدّدةٌ للهجوم على الشّركة والقرار، كلٌّ منها يعكس رؤيةً طائفيّةً معيّنةً، فبرز خطاب المؤامرة الاقتصاديّة الذي روّج بعض المستخدمين لرواية مفادها أنّ “الغرض من إيقاف شركة تنّورين هو استغلال الفراغ في السّوق لفتح الباب أمام شركات مياه شيعيّةٍ ودرزيّةٍ”، حوّلت هذه الرّواية المنافسة التّجاريّة إلى صراعٍ طائفيٍ على وسائل التّواصل، وتبعه خطاب تشريح الهويّة، حيث تمّ التّركيز على هويّة الموقّعين والقائمين على الشّركة، إذ تمّ التّذكير بأنّ “الوزير نزار هاني من الطّائفة الدّرزية” وأنّ “الشّركة تمتلكها عائلةٌ مسيحيّةٌ مارونيّةٌ، يقال إنّها مقرّبةٌ من حزبٍ مسيحيٍّ لبنانيٍّ،” ثم ظهر خطاب ازدواجيّة المعايير الذي تساءل فيه مستخدمو وسائل التواصل: “لماذا تُسْتَهْدَفُ تنّورين تحديداً من بين كلّ شركات المياه؟”، واعتبروا أنّ ثمّة “محاباةً طائفيّةً” في تطبيق المعايير.
التضامن الطائفي والهجوم المضاد
شكّل المدافعون عن الشّركة جماعات تضامنً طائفيٍّ افتراضيّةٍ، انقسم فيها اللبنانيّون إلى “جبهتين متناحرتين، واحدةٌ تقاطع الشّركة، وأخرى مستعدّةٌ لشرب آخر قطرةٍ فيها، حتى لو كانت ملوثّة!”. وتجلّت مظاهر هذا التّضامن في ثلاثة محاور: أولاً، الافتخار بالهويّة، حيث تحوّل شعار “الأرز بيشرب تنّورين” من شعارٍ تجاريّ إلى رمزٍ هويّاتي، وتم توظيف الأرز كأداةٍ للدّفاع عن الهويّة. ثانياً، كان هناك الاستهواء العاطفيّ، حيث نشر مستخدمون صوراً لعبوات المياه مع تعليقاتٍ مثل “أشربها وأنا مْغَمِّضْ العينين” و”ثقتنا بتنّورين لا تهتز”، في تعبيرٍ عن التّضامن الذي يتجاوز الجانب الصّحّيّ. وثالثاً، لم يقتصر الدّفاع على تأييد الشّركة، بل تحوّل إلى هجومٍ مضادٍّ على المؤسّسة، حيث “دعا بعض المستخدمين إلى ملاحقة الوزير بتهمة التّلاعب ومحاولة تشويه سمعة الشّركة العريقة”.
الآليات الرّقميّة.. هندسة الجدل الطائفيّ
كشفت الأزمة كيف أنّ تصميم منصّات التّواصل الاجتماعيّ يسهّل نشر المعلومات المثيرة للجدل بغض النّظر عن دقتها. فلبّ المكافأة على هذه المنصّات يعتمد على الشّعبيّة، كما يتّضح من عدد الردود والإعجابات والتّعليقات التي تتلقّاها المنشورات. الخوارزميّات تعمل على تضخيم انتشار المنشورات التي تجذب الانتباه، وقد كتب باحثون في علم النّفس أن “وسائل التّواصل الاجتماعي لديها بالفعل القدرة على خلق عادات لدى المستخدم لمشاركة محتوى عالي الجودة” ، لكنّ التّصميم الحاليّ يفضل المحتوى المثير الذي يولّد التّفاعل السّريع.
هذا، ومرّ الخطاب الرّقميّ المتعلّق بمياه تنّورين بمراحل تحوّل دلالية عميقة، تمثّلت في البداية بجدلٍ حول دقّة الفحوصات المخبريّة ومدى مطابقة المياه للمواصفات، ثمّ تحوّل إلى تساؤلاتٍ حول نزاهة القرار وعدالة تطبيقه، وبعدها تحوّل إلى اتهاماتٍ طائفيّةٍ واستدعاءٍ للهويّات الجماعيّة، وصولاً إلى التّعبئة الطّائفيّة وولاءاتٍ هوياتيّة متصارعة. فأصبحت وسائل التّواصل الاجتماعيّ منصات مضخّمةٍ للأفكار، وصانعة للمعنى ومولّدة للصراعات، وتحوّلت من مجرّد ناقلٍ للخطاب الطائفيّ إلى فاعلٍ في إنتاجه وإعادة إنتاجه. كما أنّها لم تعد تعكس الانقسامات القائمة فحسب، بل أصبحت فاعلةً في تعميقها وتثبيتها.
في الختام، تكشف أزمة مياه تنّورين أنّ الطّائفية في عصر وسائل التّواصل الاجتماعي لم تعد مجرّد انتماءٍ تقليديٍّ، بل أصبحت نظاماً تفسيريّاً رقميّاً يقدّم إجابات جاهزة للأزمات المعقّدة. تحوّلت المنصّات الرّقميّة من أدوات اتصال إلى أدواتٍ لـ”صناعة الرّأي العام” ، حيث أصبحت ساحةً لتمازج العواطف والهويّات والمصالح.
الأزمة أظهرت أيضاً كيف يمكن لخلافٍ تقنيٍّ أن يتحوّل إلى حربٍ رمزيّةٍ تستدعي التّاريخ والهويّة والانتماء. أصبحت المياه، التي ينبغي أن تكون حاجةً إنسانيّةً جامعةً، حاملةً للهويّة ومنتجةً للانقسام في الفضاء الرّقميّ.
تذكّرنا هذه الأزمة بأنّ وسائل التّواصل الاجتماعيّ في المجتمعات المنقسمة طائفيّاً ليست فقط منصاتٌ تقنيّةٌ، بل أصبحت فاعلاً أساسيّاً في إنتاج الخطاب الطائفيّ وإعادة إنتاج الصراع. تصميمها القائم على تضخيم الجدل والمحتوى المثير يجعلها أداةً مثاليّة لتحويل أيّ أزمة، مهما كانت تقنيّة، إلى معركة هويّات.



