رأي

الحاجة إلى الراديكالية في زمن الخراب (زينب إسماعيل)

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز 

 

في لبنان، حيث يتغنّى الناس بتعانق الجبال والبحر وتشابك الظلال الطويلة مع ضوء الشمس، يختبئ الخراب في التفاصيل. فالبنية ذاتها تعيد إنتاج نفسها بصمتٍ عنيد. الكهرباء تختفي كظلٍّ دائم يغطي المدن، الدين يثقل كاهل الأجيال كقدرٍ لا فكاك منه، والودائع تتبخر في مصارف صامتة. الزمن يدور في حلقته المفرغة، والطرقات المظلمة والأسواق الغارقة بالأسعار والمؤسسات العامة المحكومة بالمحسوبيات والطائفية، كلها فصول في رواية واحدة: رواية إعادة إنتاج السلطة نفسها مرارًا وتكرارًا.

 

الراديكالية ليست شعاراتٍ معلقة على الجدران، بل الريح التي تهزّ جذور الأرض لتنكسر الأعشاب الميتة وتتنفس الحياة من جديد. تبدأ من التفاصيل اليومية: في رفض الطاعة العمياء، في هزّ الأعراف التي تقدَّم كحقائق أبدية، في تفكيك الطائفية والزبائنية والهيمنة التي تمرّ بلا سؤال. فكل عادةٍ اجتماعية، وكل صمتٍ متواطئ، هو جزء من آلةٍ تكرّر ذاتها وتعيد إنتاج الأزمات.

 

لكن اليسار المعاصر، الذي وُلد لمواجهة السلطة، انزلق نحو مكاتب الإصلاحات. صار يرتدي رداء القوانين والتعديلات الشكلية كأنها أدوات كافية للتغيير. كل إصلاحٍ صغير يُقدَّم على أنه إنجاز يتحوّل، في الواقع، إلى مسكّن جديد، وسيلةٍ لإقناع المجتمع – واليسار نفسه – بأن التغيير ممكن داخل البنية التي صُممت لتُبقي الفساد حيًّا. وهكذا تتحوّل الراديكالية إلى عجزٍ مؤدب، والإصلاح إلى قناعٍ يحمي النظام من مواجهة ذاته.

 

السياسة ليست فصلًا عن المجتمع، بل مرآته. فالمجتمع الذي يرضى بقيوده اليومية يعيد إنتاج السلطة مهما تغيّرت وجوهها. وحين تهتزّ جذور الوعي داخل الإنسان، حين يجرؤ على التحرر من خوفه، يصبح قلب السلطة قابلًا للتحوّل. الراديكالية الاجتماعية هي الوقود، والسياسة هي المحرك، ولا يمكن للمحرك أن يعمل دون الوقود.

 

الراديكالية ليست حنينًا إلى زمن الثوّار، ولا شعاراتٍ في الخطب. هي إدراكٌ بأن العالم كما هو لا يصلح، وأن البديل ليس حلمًا بل ضرورة. لبنان يحتاج إلى أن يسأل: لماذا يظلّ الظلام حاضرًا لعقود؟ لماذا تستمر آلة الاستغلال في الدوران؟ ولماذا تُعاد الأزمات نفسها كطقوسٍ يومية؟

 

في الراديكالية تبدأ الإجابات من الزوايا الصغيرة: من الشوارع الخالية من الإنارة، من الجدران المليئة بالكتابات الصامتة، من كل صوتٍ يختار السؤال بدل الصمت. في المدارس التي تزرع حرية التفكير، في المساحات العامة التي تكسر القوانين الاجتماعية المفروضة، يولد وعيٌ جديد يربط الفرد بالسلطة، والحياة اليومية بالمصير السياسي. ومن هذه التفاصيل الصغيرة، يتكوّن وعيٌ جذري يمدّ جذوره إلى قلب السلطة، فيُظهر أن البديل ممكن، لا كنسخةٍ من الماضي، بل كولادة مختلفة تمامًا، تنبثق من فوضى الانكسار وصمت الخراب.

 

الراديكالية ليست خيارًا، بل تجربة. تجربة تهزّ الوعي، تقطع المسارات المألوفة، وتفتح باب الرؤية الجديدة. تجعل من كل تفصيلٍ يومي، من كل ظلٍّ وضوءٍ عابر، جزءًا من حلمٍ يُبنى على الأرض، لا في الكلمات فقط. هي وعيٌ يستيقظ من الركود، يحوّل الانكسار إلى قوة، والصمت إلى سؤال.

ومن رحم هذا الخراب، يولد وطنٌ جديد — لا يشبه إلا من تجرّأ على الحلم.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى