خيارات الأمة : الديمقراطية كشرط بقاء(جهاد سعد)

بقلم د. جهاد سعد – الحوارنيوز
نعود في هذه الأيام العصيبة لنستكشف جذور الهوان الذي وصلت إليه الأمة، ومعالم النهوض في دول منكوبة بحكامها، مسلوبة السيادة على أرضها وقرارها ومواردها، ولنزرع الأمل في القلوب الكسيرة ، والعقول الحائرة، والإرادات المشلولة ، والشعوب المهملة التي ينظر اليها بعين قوى الهيمنة العالمية كعائق ينبغي سحقه بالوثنية التكنولوجية وحروب غسل الأدمغة ، ومشاهد الهول وجرائم الإبادة ابتداء من فلسطين وصولا إلى القضاء على كل عناصر القوة التي تهدد عاصفة الإستباحة الشاملة لكل إنسان والإنسان كله .
أولاً_ الغرب والحرب
العنف غير المسبوق وجريمة الإبادة الجماعية والتهجير القسري التي تحدث في غزة والمنطقة الآن، بدعم علني من المؤسسة الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، أعاد طرح الأسئلة العميقة حول طبيعة الحضارة الغربية وخلفيات العنف المفرط الذي تمارسه منذ ثلاثة قرون من الاستعمار. والحق أن سلوك الغرب لا ينفك عن الحرب ومن لا يفهم الحرب لا يفهم الغرب، بسبب جذوره الوثنية الإسبارطية الرومانية وغلبة الإتجاه المادي النفعي على ثقافته. وغرور التطور التكنولوجي الذي حول التكنولوجيا إلى إيديولوجيا بمعنى أن التكنولوجيا أصبحت الإله _ الوثن الجديد الذي يملك القدرة على حل المعضلات بالقوة المادية الصرفة.
من البداية لم يضع الغرب “منظوماته الحقوقية”، الا بعد اخضاع القانون والقيم إلى وثنيته المعاصرة وعنصريته المنافقة، وأحب ان أوضح ما معنى وثنية الغرب لان هذا الأمر بالغ الأهمية في زمن علمانية سياسية تتلاعب بالدين من أجل تحقيق أهداف هي أبعد ما تكون عن الدين.
من اكاذيب الدعاية الغربية اليوم القول بأن هذه الحضارة يهودية _ مسيحية، لا بل هي وثنية تتعامل مع كل ما تصنعه، وكأنه اله من تمر تأكله عندما تجوع، فقد صنعت القانون الدولي وعطلته عندما احتاجت لذلك، وصنعت المجتمع المدني ثم عسكرته او اخضعته للوبيات التصنيع، وصنعت المستبدين في مناطق هيمنتها لحراسة التخلف وتأبيد الهيمنة ثم اسقطتهم عند الحاجة. ثم إن الدين هو المطلقات هو الاله الواحد المطلق والقيم المطلقة التي يخضع لها الحاكم والمحكوم الدول والمنظمات. وهذه الحضارة لا تعرف المطلقات كل شيء عندها نسبي ويخضع لتغير المصالح ومناطق النفوذ. فهي اكثر من مزدوجة المعايير انها تقول الشيء ونقيضه في زمن آخر او مكان آخر، ويعود هذا في تقديري لا إلى التمسك بالهوية الدينية بل العكس تماما يعود إلى ترك المسيحية والسعي لهيمنة عالمية قائمة فقط وفقط على معادلات القوة المادية ومكملاتها من الحروب الناعمة والخشنة. وعلى مدى ثلاثة قرون بدءا من الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر أنتج الغرب أجيالا من الحروب لا تزال تتوالد كلما أحدثت التكنولوجيا قفزة في سلسلة ثوراتها المعاصرة فلدينا اليوم مزيج جهنمي: من الحرب التقليدية، والحرب بالوكالة، والحرب الناعمة، والحرب الإقتصادية، و الحرب السيبرانية، والحرب الإقتصادية، والحرب الذكية، والحرب الهجينة، والحرب البيولوجية والحرب الإيكولوجية تكملها الثورات الملونة والإرهاب المعولم والهندسة المجتمعية، وصناعة الجوع والأزمات وإدارتهافي سبيل إلغاء دول وإعادة هندسة دول وخرائط ومجتمعات بما يلائم ، نهب الثروات وتخفيف نسبة البشر، وزيادة القدرة على التحكم بعد أن أصبح ممكنا إدارة أي نقطة في العالم من أي نقطة في العالم، ويبشرنا مشروع القبة الذهبية الأميركي بانتقال جبهات الحرب إلى الفضاء لتعزيز القدرة على قصف أي موقع في العالم من الفضاء بطريقة آلية لا حاجة فيها إلى الجيوش …
في عصر النهضة لم يخف المفكرون الغربيون عودتهم إلى الوثنية اليونانية الرومانية وتركهم للتفسير المسيحي للفلسفة اليونانية. والى الآن لا تزال أسطورة الإله الوثني بروميثيوس الذي سرق شعله المعرفة من الآلهة رمز التمرد الغربي على الدين عموما والمسيحية خصوصا. والتصريح العلني بأن الوثنية هي دين النهضة موجود بوضوح في النصوص الفلسفية وفي تاريخ الفكر السياسي عند جان جاك شفالييه وغيره.
ومن منظور آخر الوثنية هي عبادة ما نصنع سواء كان تمثال آزر او تكنولوجيا. وتحويل التكنولوجيا إلى ايديولوجيا كما نرى عند يورغن هبرماس هو بالضبط وثنية تكنولوجية، وايمان مفرط بأن مشكلات الحداثة تحل بالمزيد منها، وهو وقوع في أشكال الدور في المنطق و الفلسفة او وقوف الشيء على نفسه، هربا من حل مشكلات النسبية المطلقة بالإيمان المطلق بالله والإنسان… وتشكل ألمانيا هابرماس اليوم عرين الصهيونية الأوروبية المتشددة الداعية إلى استمرار الحروب بكل أشكالها.
إن الهدف من هذا البيان لماهية الغرب هو كشف القناع عن حقيقة الغرب الذي لا تنفك طبيعته “الوثنية والسادية” وثقافته “الرومانية _ الإسبارطية ” عن العنف كآلية سيطرة على الطبيعة والإنسان كل إنسان بما فيه المواطن الضحية الذي يعيش تحت هالة الماكنة الضخمة في الدول الغربية نفسها. وفي الوقت نفسه تتكلم إسبارطة الكبيرة بلغة أثينا الفلسفية لستر الطبيعة العنفية وتسويق المشاريع بلغة منطقية وحقوقية وصور نمطية إعلامية تم تصنيعها باتقان. والحال أن الصراع غير متكافىء بين أجيال الحروب التي تتوالد وثلاثة أجيال من الحقوق هي الحقوق المدنية والسياسية ، والحقوق الإقتصادية والإجتماعية التي نصت عليها عهود سنة 1966 وما سمي مؤخرا “حق التضامن ” غير المعترف به في أميركا.
فلا بد من التخلص من وهم الإعتماد على الحلول الغربية المطروحة ومواجهة حروبه بكل اشكالها إنطلاقا من استنهاض القوى الذاتية للشعوب والأمم… طالما أن الغرب يطبق مبدأ: أن مشكلات الحداثة تحل بالمزيد منها يترجم اليوم بلغة الحرب بأن ما لم يخضع بالقوة سيخضع بالمزيد من القوة.
وفي هذا الإطار أرى من الضروري أن نفرق بين الغرب المؤسسة ، والغرب الناس الفطريين، الذين يعانون من مكنة تفريغهم من الروح والضمائر وتحويلهم إلى آلات تسعى وراء زيادة ثروة النخبة الحاكمة أو ال 1% لتحصل على فتات، وتستهلك عمرها في دورة عمل مضنية لخدمة أخطر نظام سيطرة في التاريخ.
وفي المحصلة الغرب عنف مطلق يتصرف اليوم بعقل القدرة التكنولوجية لا بقدرة العقل، وإذا اقتضى الأمر فإنه يلجأ إلى مزيج من “ذئب هوبز وثعلب ميكيافيلي”، وما يطرحه على العالم الإسلامي اليوم وعلى الجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة هو التخلي الكامل عن أسباب القوة بهدف “إحتكار القوة ” واستخدامها بدون اية ضوابط عندما يلزم الامر يعني باللغة الشيعية بين “السلة والذلة”.
_ بالمقابل أظهرت حرب غزة وحرب لبنان وتجربة الحرب مع إيران و اليمن أن هناك حدودا لما يمكن أن تفعله القوة المسلحة، ولذلك فإن الأساليب المكملة للمخطط هي: الدول الفاشلة والحروب الاهلية التي تستكمل عملية قتل البشر بأدوات محلية وإقليمية.
ثانياً: منهج الحق المطلق في مقابل العنف المطلق
منهج الغرب إذا هو منهج العنف المطلق مع كل آخر وأي آخر، ولكن لأنه لا يستطيع أن يعلن هذا المنهج علنا فإنه يمارسه ويستره بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، يمارس كل ما فعله هتلر ويشن حملة على هتلر حتى لنكاد نصدق أن هتلر ليس إبنا شرعيا لفضاء العنف الغربي والعنصري، وبالمقابل يشن عليك حملة إعلامية ونفسية ليحولك إلى غاندي، ولتتبنى “بالقوة” مذهب الرفق المطلق.
في مقابل التطرفين : تطرف العنف المطلق والرفق المطلق، يطرح الإمام المغيب موسى الصدر رضوان الله عليه منهج الحق المطلق فيقول: ” لست مع العنف المطلق ولا مع الرفق المطلق بل أنا مع الحق المطلق، وهذا يتطلب الرفق أحيانا والعنف أحيانا أخرى.”
بهذه الكلمة الرائعة يلخص الإمام المغيب منهج الحق المطلق ويرسم للمجاهدين طريقهم، فالعنف يكتسب مشروعيته من القضية التي يمارس من أجلها وكذلك الرفق، والعنف بمعنى قتل العدو وكسر إرادته والتحرر من تأثيره وهيمنته يصبح مقدسا ومطلوبا وضروريا عندما يتوقف على استخدامه وجودنا ومستقبلنا.
والهجمة الإعلامية والسياسية والإقتصادية و النفسية التي تستهدف سلاحنا وقوتنا وإرادة المواجهة العنفية لدينا هي جزء لا يتجزأ من عنف الغرب وإسرائيل، وتهدف في الأساس إلى قتلنا وإبادتنا بأقل كلفة ممكنة ولا تهدف أبدا إلى وقف العنف الصهيوني الأميركي الذي يمارس ضدنا، إن الحرب مع إسرائيل وأميركا اليوم أوضح من سابقاتها بعدما تعرى المعسكر المناهض للمقاومة وتحالف الإستبداد العالمي والإقليمي لفرض “الإستسلام بالقوة” معتمدا على غياب إرادة المقاومة والثورة لدى الشعوب العربية والإسلامية ، بالمقابل تثبت المقاومة في فلسطين ولبنان و إيران واليمن والعراق أن استراتيجية إرهاق العدو وإسقاطه ولو كلفت خسائر كبيرة لا تشترط توازنا في القوى بل تشترط تحرر الإرادة السياسية، وثبات التعبئة العقائدية والإيديولوجية ، وثقافة مقاومة شعبية ومدنية، ونزعة عشق إستشهادية، وطرح بدائل تنموية ، تحمي الأوطان والدول وسلامها المجتمعي وهي تقاتل على الحدود، والمشروع قائم له إنجازاته التي يمكن تطويرها والبناء عليها. ومن هنا بالذات تبدأ الصلة بين المقاومة والتنمية والتربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والاعلام والثقافة.
ثالثا_ أولوية التنمية السياسية الديمقراطية الشعبية كشرط بقاء
لا يترجم الغضب الشعبي إلى إرادة سياسية في معظم العالم العربي والإسلامي أبداً، وبالمقابل يظهر المد الشعبي والتضامن المدني مع خيارات الحكم في إيران واليمن وفلسطين ومع خيارات المقاومة في لبنان كخزان قوة لا ينفد، وهذا يعني بكل بساطة أن تغييب المد الشعبي عن القرار السياسي هو سر الضعف في الأنظمة المستسلمة وسر القوة في معسكر المقاومة. فيما يكمن الرعب الصهيوني من الحركة الشعبية في دول الغرب من وجود فرصة لترجمة هذه الإرادة الشعبية العارمة إلى قرار سياسي، مما يدفع المؤسسة الحاكمة هناك لا ستعجال التخلص من القضية الفلسطينية بمشروع ترامب _ نتنياهو المطروح مؤخرا، بعد ممارسة ضغوط غير مسبوقة على أنظمة لطالما آمنت بأن عناصر بقاءها مرتبطة بالدعم الغربي المباشر. ولذلك علينا أن نفهم استهداف الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها كحرب على هذا النموذج الخطر، المبني على دعم شعبي حقيقي واستراتيجيات “جيوبولتيك الإقتدار” التي أرساها السيد القائد الخامنئي (دام ظله ) على مدى عقود.
1_ خصوصية الجمهورية الإسلامية في إيران
في عالم الإستقطاب الحاد الذي حكم القرن العشرين، كان العالم العربي والإسلامي يعرف ما معنى الإنقلاب العسكري ولكن لا يعرف معنى الثورة، وكانت الثورات الكبرى في العصر الحديث قد انحرفت عن مسارها وتحولت إلى دول امبريالية طاغية، كان من الصعب أن نتصور ثورة مستقلة في منطلقاتها وخطابها وفكرها وممارستها، ولكن جهاد الشعب الإيراني الذي انطلق متفجرا منذ سنة 1963 كان قد أينع على يد قيادة تاريخية استمدت عزمها وفكرها من الإسلام الأصيل وروحها من الله سبحانه.
وفي سنة 1979 شهد العالم سقوط طاغية عملت على دعمه كل دوائر الإستعمار في العالم، وبزوغ فجر الثورة الإسلامية الإيرانية التي لاتزال حتى الآن فيما تمتعت به من استقلالية وأصالة وسلمية وحضارية موضوعا للبحث والدراسة، وهدفا تصوب عليه دوائر الإستعمار الحديث كل ما أوتيت من جهود بغية تشويهه أو إسقاطه أو احتوائه.
وبعد أكثر من أربعة عقود من عمر الثورة لا تزال هذه الروح سارية في جسم الدولة وتوجهاتها الإقليمية والدولية، ولا تزال الإستقلالية سمة أساسية للثورة والدولة، على الرغم من الحروب المتتالية المعادية للمشروع والنموذج والرسالة.
كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران، في أجواء انسحاب مصر من المواجهة واتفاقية كامب ديفيد، بمثابة “زلزال” كما عبرت أدبيات مراكز الدراسات الأميركية، وأبرز سمة في هذه الثورة كان حضور الناس بكل أطيافهم وتياراتهم وطبقاتهم ، في عصر حكم الأجهزة التي حرصت على تهميش البشر في كل العالم…. للإستفراد بدور “الفاعل السياسي ” وصانع الأحداث.
ولذلك فإن اخطر ما قدمته الثورة الإسلامية في إيران هو حقيقة : أن الشعوب قادرة على تغيير أعتى الأنظمة. وفي تجربة الدولة أحدثت إيران ثورات صغيرة مكملة لثورتها الكبرى في الأداء السياسي والبحث العلمي، والتنمية الإقتصادية تحت الحصار، فكانت ولا تزال الدولة الإسلامية الوحيدة المكتملة السيادة مقابل دول إسلامية منقوصة السيادة أو محميات خليجية منزوعة القرار والقوة تشكل النموذج الذي يطمح لتعميمه الغرب على الحواضر العربية والإسلامية.
بعد الحرب العسكرية المباشرة ، كان الحصار الإقتصادي من أشد أسلحة الغرب قسوة على إيران، مما أثر بشكل ملموس على طموح إيران في التنمية وجعلها تهتم بالجانب العسكري تحت التهديدات المستمرة بالحرب.
كان مقدرا للحرب الإقتصادية الخطيرة أن تفرغ زخم الثورة من مؤسسات الدولة، وقد نجحت بالفعل في إسقاط النظام العراقي والنظام السوري بدون كلفة عسكرية كبيرة. وفي حالة إيران ساهم الحصار الإقتصادي في دعم الإتجاه الإصلاحي من دون أن يخرج هذا التيار من حدود الدفاع عن المصلحة القومية الإيرانية لأن رموزه في الأصل من أبناء الثورة أيضا.
وفي الحرب الأخيرة ساهمت العدوانية الغربية المتوحشة التي تستفز المشاعر القومية لدى الإيرانيين في دفعهم إلى رفض الشكل الوحيد الذي يعرضه الغرب على باقي العالم وهو التبعية الذليلة وتنفيذ الأوامر بالقوة. كما أدى بروز القوة العسكرية السيادية الإيرانية والرد الصارم على العدوان إلى اكتشاف بعض الإيرانيين أنهم في دولة قادرة على حمايتهم…
وانطلاقا من هذا الواقع بالذات فإن إيران أصبحت مدفوعة للتمسك بثوابتها والتعبير عن قوتها على مساحة التحدي العالمي و الإقليمي متسلحة بوعي أمتها ودعمها، بعد أن كشفت المجازر الصهيونية _ الأميركية صوابية الرؤية الخامنئية لطبيعة الصراع.
ولذلك فإن الأمل في استمرار الدعم الإيراني لقوى المقاومة في المنطقة لا يزال قائما ولو بطرق مختلفة تتلاءم مع المتغيرات في المنطقة والعالم. ومن المؤكد أن محاولات عزل إيران ستفشل على المدى المتوسط والبعيد ولكن أيضا هذا لا يعفي الأطراف المستهدفة ومحور المقاومة من إبداع طرق التفافية على العقوبات ومحاولات تقطيع أوصال المحور.
لقد مُنع العرب وبقية المسلمين من الإستفادة من التجربة الإيرانية، بل رفعت بوجهها السدود المذهبية والقومية وكانت النتيجة حرمان العالم العربي والإسلامي من أنظمة تمثل شعوبها في ديمقراطية رشيدة تعبر عن هوية الشعب وثقافته وإرادته.
2_ معجزة اليمن
20 دولة اجتمعت على قتل الجنين اليمني وهو بعد في بداية ظهوره الثوري، و10 سنوات من الإستباحة والقتل والتدمير بدون تغطية إعلامية بل سخرت كل القدرات الإعلامية العربية لتشويه صورة اليمني الثائر المتمسك بالمسيرة القرآنية…
ما كان السيد القائد عبد الملك الحوثي ومن معه في حركة أنصار الله معتمدا بعد الله سبحانه إلا على عمق الثقافة الشعبية اليمنية القرآنية وصدقها أولاً، وثانيا على دعم محور المقاومة المتواضع قياسا بما سخر لتدمير اليمن وإخضاعه.
تنبع قوة اليمن من استقلالية قراره، والتمثيل الحقيقي لإرادة شعبه، والإصرار على بناء القوة بقدرات وطنية، ومبادرات تنموية بعيدة عن وصفات صندوق النقد والبنك الدولي، وعدم الإهتمام برأي الغرب فيما يفعل، يقرأ اليمني كتاب الله ويحدد سياسته، فيقصف حاملات الطائرات الأميركية حتى يتسبب بهروبها وانسحابها، ويتحكم بممر استراتيجي دولي في البحر الأحمر كما كانت تفعل تاريخيا دول عظمى، ويحاصر الكيان الصهيوني دعما لغزة بفعالية تظهر لكل مراقب منصف لم يتلوث بالأغراض والأمراض ، وينزل الملايين إلى الشوارع في كل جمعة مباركة، على مدى سنتين من عمر معركة طوفان الأقصى، ويخرس السيد محمد علي الحوثي مذيعة “البي بي سي” بعزة نفس خالية من الشعور بالدونية تجاه الغرب والمتغربين. ويصرخ الطفل والشاب والشيخ بصرخة السيد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، ” “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. من دون عقدة أسطورة العداء للسامية ، ومن دون أي حرص على تجميل صورته بعين “أصنام المجتمع الدولي”…
اليمني صادق مؤمن شجاع واضح ، وعميق في حضارته وثقافته ، ويعبر عنها بزيه وخنجره ورايه وشعبه الهادر فيذكر العالم بأنه لا يزال عصيا على السيطرة ، منيعا في مواجهة الهيمنة ، يصنع تنميته بنفسه، ويخوض حربه بما أوتي من قوة شعبية ووطنية وإيمانية.
الله سبحانه حاضر دائما في رؤية اليمني لتوازن القوى، والقرآن الكريم حاضر بقوة في الخطاب السياسي والقرار السياسي بقدر ما هو حاضر في قلوب الناس وسلوكهم اليومي.
هذه تجربة ناجحة في إيلام الطاغوت الكبير والصغير بإمكانيات أقل من إمكانيات دول عربية وإسلامية كبرى بالمعنى المادي للكلمة، ولذلك فهي حجة بالغة على كل الأمة بدولها وحكامها الذين رضوا أن يجلسوا جلسة التلميذ المطيع أمام شخصية مختلة عقليا ونفسيا وأخلاقيا تعبر عن أحقر ما في الغرب من صلف وعنجهية وغرور وعنصرية واستكبار.
أمام شعوب الدول العربية والإسلامية بالتالي مثالين ونموذجين سواء في اليمن أو إيران، وفي الحالتين لم يتمكن المعسكر الأميركي والصهيوني من فرض إرادته رغم أنه لم يترك شكلا من أشكال الحروب إلا وشنها على البلدين. وفي الحالتين يقوم الإسلام الأصيل بتأمين مادة الثقافة المقاومة، فيخضع الحاكم والمحكوم للقيم والمعايير والتعاليم والأحكام الإلهية لأنها غير خاضعة بدورها لمزاج أصحاب المصالح، وايادي والسنة وأسلحة شياطين العصر.
والعالم بكله اليوم يدرك حقيقة المشروع الغربي ويراه في ساحات الصراع الساخنة نذير شؤم يمهد لحرب عالمية ثالثة تستخدم فيها أخطر أسلحة الدمار الشامل، وتهدد فرص الحياة الكريمة على امتداد الأرض.
3_ المقاومة اللبنانية
مع تغلب الهوية الإسلامية الشيعية على مقاومة لبنان، علينا ألا ننسى الفكر الذي أسس لها كمقاومة وطنية تدافع عن مصالح البلد ، وتحترم الإنتماءآت الوطنية والقومية والدينية من دون أن تصنمها، بل توظفها في مشروع تحرير الكل الوطني، ولذلك فإن الطابع الوطني للمقاومة اللبنانية لا يزال قائما وصادقا في دفاعه عن السيادة والأرض والشعب. ورغم ضجيج الأجهزة والتحريض الإعلامي والحملات الدعائية المركزة يدرك صاحب الفطرة السليمة من كل الطوائف اليوم أن سقوط المقاومة في لبنان هو بداية نهاية للبنان كما نعرفه، وبداية رسم خرائط جديدة ، تهدف إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وظهور دويلات منزوعة القوة يتم التحكم بها من القاعدة العسكرية المتقدمة للغرب.
وإذا نظرنا إلى سر الحياة في هذه المقاومة فسنجده في الإلتفاف الشعبي ، الذي عاد ليطلق صرخاته المدوية في تشييع الشهداء وفي التكافل الإجتماعي وفي الذكرى السنوية الأولى للشهداء القادة.
“أشرف الناس” كما كان الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه يعبر بصدق، هم خزان القوة المستهدف اليوم بالإرهاب والقصف والحملات الإعلامية، والحرب السياسية، وقانون الإنتخاب، لإخراجهم من مراكز القرار، وتحويل لبنان إلى “دولة عربية” تقليدية تنتظرقيادتها التعليمات من خارج الحدود… ويقمع شعبها بالحديد والنار والسجون إرضاء “للسيد الكبير”.
4_ المقاومة الفلسطينية
مهما كانت القراءآت والنتائج، لن تكون التسوية التي تبحث اليوم نهاية المطاف، وأهم ما في الرد الحمساوي ما يتعلق بمصير الشعب الفلسطيني، وقراره ، فهو الذي يقرر مصير السلاح ، بعد أن قدم معجزة الصمود الغزاوي ولم يترك ارضه ولم يستجب لنداءآت التهجير القسري رغم المجازر.
حتى مصير السلطة الفلسطينية أصبح في مهب الريح عندما طرحت مسألة الوصاية الدولية وعودة الإستعمار القديم بوجه كالح هو توني بلير.
وهنا أيضا يبقى سر القوة هو صمود الشعب الفلسطيني، وعزمه على مواصلة طريق التحرير بكل السبل، بعد أن تبين أن حل الدولتين مع هذه التركيبة من الصهيونيات الغربية والعربية والإسلامية مسألة مستحيلة في الواقع، وإن اعترفت بالدولة الفلسطينية 150 دولة في العالم، فليس هذا أول إجماع دولي يضرب بعرض الحائط ، وليس المسار السياسي سالكا مع السيطرة الأميركية على مجلس الأمن. فماذا تفعل الأمم المتحدة في نيويورك ، وقد أهينت وجردت من كل فعالية في أكبر مذبحة في التاريخ المعاصر.
وفي فلسطين أيضا يبقى الأمل معقودا على جمهور الشعب، على خلفيته الثقافية ، وعقيدته القتالية، ورغبته في أن يبقى “تحت الشمس” ضد ظلام يفكر في احتلال الضوء في هذا العالم.
5_ الغضب الشعبي يجب أن يتحول إلى عملية منتظمة وهادفة
التحكم بالغضب الشعبي والحراكات المستقلة عن إرادة الأجهزة الكبرى، أصبح اليوم علما قائما بذاته، بعد أن سخرت ألعاب الدعاية واللغة والأزمات الإقتصادية والحروب المتواصلة ومنصات التواصل، لصناعة الثورات الملونة، وتم تطبيقها عمليا في أوروبا الشرقية والربيع السلفي.
فلا مناص من تأسيس الحراكات الشعبية السلمية هذه المرة، على أسس نفسية وعلمية وتنظيمية، تنشر الهدى من حيث انتشر الضلال، وتبدع في تأسيس المنصات البديلة للأصوات الحرة الفاعلة في هذا العالم .
لقد اتبعت الثورات الملونة تعليمات خبير مخابراتي هو جين شارب، ووصلت في أكثر من بلد عربي وأوروبي إلى السلطة، وسمحت للغرب أن يبدأ حربه على روسيا من أوكرانيا _ دولة الأنطونوف سابقا _ .. وظهرت ميول خطيرة لدى بعض التنظيمات الإسلامية للخضوع لأجندات المستعمر الذي كان يسعى أصلا إلى صلح واعتراف “إسلامي” بالكيان الصهيوني…
فلم لا تكون لدينا برامج وتعليمات توجه الغضب الشعبي العربي والسلمي نحو المجرمين في هذا العالم، وتسقط إمكانية السيطرة بالحرب المستمرة علينا كعرب ومسلمين بل كبشر ….
التحدي الكبير هو استعداد الشعوب للتخلي عن الروتين اليومي وتغيير برامج العمل، والقدرة على إدارة توتر مدني مع السلطة الأجيرة، وتركيز الغضب ضد الأميركي والصهيوني والأوروبي كمؤسسة، مع التواصل مع الضمائر الحية في أميركا وأوروبا والعالم اجمع.
لدينا في هذا العالم العربي والإسلامي عقول تكنولوجية جبارة يمكنها اختراع المنصات البديلة، عن التيك توك والفايس بوك والإنستاغرام . ولدينا عقول إدارية ثورية يمكنها أن تنظم احتجاجات سلمية فاعلة تثأر لكرامة الشعوب المهدورة الدم ، كما لدينا أمثلة لقيادات تاريخية خاضت معاركها مع الإستعمار ومُنعت من تأسيس دول ذات سيادة بخدعة الإستقلال، فلنتعلم ونتدارك ما فاتنا في معارك الإستقلال المنزوع السيادة.
ستنتج هذه الجهود دفتر تعليمات شبيه بذلك الذي صنعه جين شارب، ولكن من أجل ديمقراطية حقيقية هذه المرة تنتجها عملية شعبية وحراكات منظمة تدرك أبعاد المعركة وتحسن إدارتها.
ولن يقف أحد في وجه الموجات الشعبية التي تغسل دولنا بالماء الكثير، هي خلطة يتصالح فيها العقل الصارم مع عبقرية الجنون . مع قيادات شعبية واضحة الإنتماء هذه المرة تؤمن بعمق بغنى التراث المشرقي وانسانيته وحضاريته.
إن تحرير الخيار السياسي لم يعد شرط التنمية وإنما أصبح اليوم شرط البقاء، والمعادلة صفرية: نكون أو لا نكون!



