“الديمقراطية اللبنانية: بين النص والتطبيق” (اسامة مشيمش)

بقلم: د. أسامة توفيق مشيمش – الحوار نيوز
عندما نتأمل مفهوم الديمقراطية في لبنان، نجد أنفسنا أمام حالة فريدة تستعصي على التصنيف الكلاسيكي المتعارف عليه في العلوم السياسية. فالديمقراطية، بوصفها نظام حكم يستند إلى إرادة الشعب من خلال صناديق الاقتراع، ويفترض تداوُل السلطة وشفافية القرار ومحاسبة المسؤول، تبدو في السياق اللبناني أشبه بمفهوم لغوي مرن، يتبدّل مع تبدّل الأزمنة وتغيّر التوازنات الطائفية والسياسية.
الاختلاف الجوهري الذي يميز “الديمقراطية اللبنانية” عن مثيلاتها في الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية، يكمن في عمق تركيبة النظام السياسي اللبناني المبني على ما يُعرف بـ”الميثاقية الطائفية”. هذه الميثاقية التي وُضعت أساساً لضمان تمثيل عادل للطوائف، تحوّلت عبر العقود إلى أداة تعيق أي تطوّر نحو ديمقراطية فعلية. فالعملية الديمقراطية في لبنان لا تُبنى على قاعدة “مواطن واحد، صوت واحد”، بل على قاعدة “طائفة واحدة، وزن واحد”، ما يفرغ الديمقراطية من مضمونها الحقيقي.
يُلاحظ المتتبع لمسار الحكم في لبنان أن كل حقبة زمنية تحمل معها تغيّراً في معادلات السلطة، فتُنتج فئة سياسية جديدة تسعى إلى إعادة تشكيل قواعد اللعبة من خلال قانون انتخابي جديد. وهنا يكمن التحدي الأكبر: قانون الانتخاب، الذي من المفترض أن يكون أداة لتنظيم التمثيل النيابي وفق أسس ديمقراطية عادلة، يتحوّل في لبنان إلى وسيلة تُفصّل على قياس القوى النافذة في كل مرحلة. فبدلاً من أن يعبّر القانون عن مصالح الناس، يتحوّل إلى مرآة تعكس مصالح من في السلطة.
وهكذا، نجد أن كل فئة تصل إلى مفاصل القرار تسارع إلى إعداد مشروع قانون انتخابي يضمن استمرارها، ويفرض توازنات معينة تُقصي الخصوم وتُعيد توزيع الأوراق السياسية، بطريقة تعيد إنتاج ذات الطبقة السياسية بوجوه مختلفة. وبما أن المجلس النيابي هو الجهة التي تنتخب رئيس الجمهورية، فهذا المجلس – المشكّل على أساس قانون مفصّل سياسياً – يفرز رئيساً يعكس التوازنات السياسية لا الشعبية، ويُكلّف بدوره رئيس حكومة بناءً على مشاورات نيابية ملزمة شكلاً، ولكنها خاضعة لمنطق المحاصصة فعلياً.
المفارقة في الديمقراطية اللبنانية، أنها تلبس قناع الشرعية الدستورية، ولكنها تُمارَس وفق قواعد توافقية، يغلب عليها الطابع الطائفي، لا المؤسسي. فالممارسة السياسية تُخضَع للصفقات، والتفاهمات، والتحالفات الظرفية، لا للقوانين الثابتة والمؤسسات الفاعلة. بل إنّ مفهوم “المعارضة” و”الموالاة” في لبنان لا ينبني على البرامج والأفكار، بل على التموضع الطائفي والمصلحي، الأمر الذي يفرغ العملية السياسية من بُعدها الديمقراطي.
في هذا السياق، يُطرح خيار “لبنان دائرة انتخابية واحدة” كأحد الحلول الجريئة لإعادة الاعتبار لمبدأ المواطنة. يقوم هذا الخيار على إلغاء التقسيم الطائفي والمناطقي للدوائر، واعتماد لبنان كدائرة انتخابية وطنية واحدة، حيث يصوّت كل اللبنانيين للقوائم على أساس وطني لا طائفي. هذا الاقتراح، الذي يحظى بتأييد شرائح واسعة من النخب الثقافية والمدنية، يُمكن أن يُحدث خرقاً حقيقياً في البنية الطائفية للنظام، ويُعيد ترتيب الأولويات السياسية على قاعدة البرنامج والكفاءة، لا الانتماء المذهبي أو الولاء الزبائني.
إلا أن هذا الطرح، رغم منطقيته، يصطدم بجدار من الرفض من قبل أكثرية القوى التقليدية، التي ترى في النظام القائم وسيلة لضمان بقائها. كما أن اعتماد لبنان دائرة واحدة يتطلب وعياً شعبياً عابراً للطوائف، وقانوناً انتخابياً يؤمن النسبية الكاملة، وآلية إشراف مستقلة تضمن النزاهة والشفافية. فالمسألة ليست تقنية فحسب، بل سياسية بامتياز، لأن نجاح هذا النموذج يتطلب تفكيك نظام الامتيازات القائم، واستبداله بعقد اجتماعي جديد يُؤمن بالمواطنة والمساواة.
ولا يمكن إغفال دور الخارج في تعزيز هذا الواقع. إذ بات من الواضح أن أي تسوية سياسية داخلية كبرى تمر عبر بوابات إقليمية ودولية، ما يجعل من الاستحقاقات الدستورية، كاستحقاق انتخاب رئيس الجمهورية، رهائن لمعادلات لا صلة لها بالمصلحة الوطنية. فبدلاً من أن يُنتخب الرئيس بناءً على برنامج عمل واضح، وتفاهم داخلي جامع، يُنتخب كنتيجة لتوازنات إقليمية ودولية متقاطعة، تُترجم داخلياً بتسويات هشّة.
اللبنانيون لا يفتقرون إلى الوعي الديمقراطي، ولا إلى الرغبة في التغيير. لكنهم يواجهون نظاماً سياسياً متشابكاً، يضعف فيه دور المؤسسات، ويقوى فيه نفوذ الزعامات الطائفية. هذا النظام لا يُنتج ديمقراطية فعلية، بل يُعيد إنتاج أزمة مزمنة تُترجم بتعطيل مؤسسات الدولة، وغياب المساءلة، وانهيار ثقة الناس بالحكم.
في المحصّلة، لا يمكن اعتبار لبنان دولة ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة، طالما أن العملية السياسية تخضع لمنطق التفاهمات الطائفية والمصالح الفئوية. فالديمقراطية ليست مجرّد نصوص دستورية، بل ممارسة فعلية تؤمن بالمواطنة، وتقوم على تداول السلطة، وتستند إلى إرادة الناس لا إلى إرادة الزعامات. وما لم يُكسر هذا القيد الطائفي، وتُعتمد خيارات بديلة مثل لبنان دائرة انتخابية واحدة، سيبقى المعنى اللبناني للديمقراطية بعيداً كل البعد عن جوهرها الحقيقي.



