رأي

معاهدات على الورق. . حرب في الواقع (زينب اسماعيل) 

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز

 

في الأسابيع الأخيرة، انشغل العالم بما سمّي بـ”خطة ترامب لوقف الحرب في غزة”. الخطة، التي يصفها البعض بالفرصة الذهبية لإنهاء النزيف، يراها آخرون مجرّد فخّ جديد لتكريس الاحتلال وتجريد غزة من سلاحها تحت غطاء إنساني. لكن، مهما كان الموقف من هذه الورقة، فإنّ القرار الحقيقي لا يمكن أن يُتخذ إلا من أهل غزة أنفسهم، أولئك الذين يعيشون يوميًا تحت الحصار والدمار، ويعرفون أكثر من غيرهم أنّ السلام لا يُفرض من الخارج.

 

في لبنان، المشهد لا يقل التباسًا. أُبرمت اتفاقية “التهدئة” على أمل أن تضع حدًّا للحرب المفتوحة، وتعيد شيئًا من الطمأنينة إلى الجنوب والبقاع وبعلبك. قيل لنا إن الورقة تحفظ للبنان هيبته وتوقف نزيفه. لكن الواقع على الأرض يروي حكاية أخرى: الغارات لم تتوقف، الطائرات لا تغادر الأجواء، والأطفال يصرخون فجرًا تحت القصف وكأن الليل لم يكن كافيًا لحمل الخوف. عند الصباح الباكر لا توقظنا العصافير، بل صراخ الأمهات وبكاء الأطفال، وصوت الركام ينهار فوق أحلام الناس. فأي “تهدئة” هذه التي تترجم دمًا ودمارًا في وضح النهار؟

 

المفارقة أنّ الدولة اللبنانية، بدل أن تواجه هذا المشهد المرير، تلوذ بالصمت. البيانات الرسمية لا تتجاوز كلمات باردة، تطلب من الناس الصبر وتبرّر الغياب بعبارة “لا نريد العودة إلى الحرب”. لكن عن أي حرب يتحدثون؟ ألسنا نعيشها فعلًا حين تُقصف منازل الجنوب وتُهجّر عائلات البقاع وتخنق الغارات سماء بعلبك بالدخان؟ ألسنا في قلب الحرب حين يعجز المواطن عن تأمين الكهرباء والماء، وحين ينهار الاقتصاد على رؤوس الجميع؟

 

أمام هذا الفراغ الرسمي، يبقى سلاح المقاومة في صلب النقاش. البعض يراه العقبة أمام “السلام”، فيما يراه آخرون الضمانة الوحيدة لردع إسرائيل ومنعها من فرض احتلال جديد. لكن الأسئلة تبقى مفتوحة: ماذا حققت المعاهدة الموقعة إذا كان الطيران لا يزال يسرح ويمرح فوق الأجواء؟ أين “الهيبة” الموعودة إذا كان المواطن يختبئ تحت سقف بيته خوفًا من أن ينهار عليه؟

 

الهيبة، في النهاية، ليست بيانات وزارية ولا خطابات رنانة على صخرة الروشة. الهيبة تقاس بقدرة الدولة على حماية شعبها وأرضها وسمائها. وما لم تستطع الدولة أن تكون ملجأً لأبنائها، فإنها تتحول إلى عبءٍ يضاعف شعورهم بالخذلان.

 

في غزة كما في لبنان، الخطر واحد: الركون إلى اتفاقيات هشة تُرسم على الورق وتُسوّق كإنجازات، بينما في الواقع لا تُنتج سوى مزيد من الدماء. لا إسرائيل ولا أميركا يمكن الوثوق بهما؛ فمن خبر تجارب العقود الماضية يعرف أن المعاهدات سرعان ما تتحول إلى قيود تُكبّل الشعوب وتمنح الاحتلال مساحة أوسع للمناورة.

 

الحقيقة المُرّة أن الحرب لم تتوقف أصلًا: هي مستمرة بأشكال مختلفة — قصفًا ودمارًا في غزة، وغاراتٍ ورسائل ضغط في لبنان، وانهيارًا اقتصاديًا ينهش الداخل. وما لم تُسمِّ الدولة الأشياء بأسمائها، وما لم تعترف أن الصمت ليس سياسة بل استسلام، فإن “التهدئة” ستبقى اسمًا جميلًا لمعركة مفتوحة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى