سياسةصحفمحليات لبنانية

عدد خاص لصحيفة الأخبار في ذكرى السيد نصر الله :مقالات للنائب رعد وإبراهيم الأمين ومريم البسام وآخرين

 

 

 

الحوارنيوز – صحف

صدرت صحيفة الأخبار اليوم في عدد خاص لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السيد حسن نصر الله بعنزان “الدائم” ،تضمن عددا من المقالات والتقارير ،كان أبرزها مقالة لرئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد ،وآخر لرئيس التحرير إبراهيم الأمين،وثالث للزميلة مريم البسام.  

نهجك المقاوم باقٍ يلقف ما يصنعون

تحت هذا العنوان كتب النائب رعد:

 

عامٌ مضى على شهادتك، والأعداء يترقبون حضورك على الدوام، وبين أيديهم وتحت تصرّفهم إمكاناتٌ هائلة، مالٌ وإعلامٌ وتقنيّةٌ ونفوذٌ وقدرةٌ عسكريّةٌ وسطوةٌ تلوي أذرعة دولٍ وحكّامٍ ومنظّماتٍ سياسيّةٍ وحقوقيّةٍ دوليّةٍ وما دون.
ورغم ذلك كلّه، نراك تصدُمُ بؤسهم ببأسِكَ المدوّي: صوتاً، مع صرخات أطفال غزّة وثباتِ أهلها ومواصلة عمليّات المقاومة ضدّ الغزاة المحتلّين والمعتدين، وفعلاً، مع تنامي إرادة الصمود والتحدّي ورفض شعبنا للخضوع.

ويُفجعهم حضورك الدائم صوتاً وصورةً، وموقفاً وتوجيهاً، وتعبئةً وتحريضاً ضدّ الظلم والاحتلال والعدوان، وحثّاً للناس على التمسّك بنهج المقاومة والتضحية والمواجهة، والصبر والنصر ورفض الضعف والخضوع والاستسلام، وشحذ الإرادات دوماً لتيئيس المعتدين من إمكانيّة تحقيق مرادهِم أو تثبيت ما قد يُمكن لهم مؤقتاً أن يُنجزوه.

ولأنّ الحرب مع الأعداء هي حرب إرادات، لا مجرّد تصادم تقنيّات وقدرات، فإنّ مخزون إرادة شعبنا المؤمن بالله عز وجلّ، هو أعظم بما لا يُقاس به، من إرادةٍ يمتلكها عدوٌ طامعٌ وفائقُ التسلّح. لكنّه جبان ضعيف الإرادة يستقوي بإمكاناتٍ تنفد ضدّ إرادة شعوبٍ موصولةٍ بالربِّ المطلق ومتوثّبةٍ بشجاعةٍ لنيل رضاه، ونصرة الحقّ والعدل، وهي عصيّةٌ على النفاد.

قد يكون التوازن بالإمكانات والقدرات التسليحيّة بيننا وبين أعدائنا أمراً صعباً في كثيرٍ من الحالات، وفي صراعاتنا بمعظمها لم يتحقق هذا التوازن ولا مرّة… لكنّ المعادل الذي يعطّل رجحان إمكانات العدو الماديّة كان دائماً هو منسوب الإرادة الفائض لدى شعبنا أو شعوبنا المظلومةِ المتحفّزةِ بإيمانها لرفع الحيف عن بلادها وأوضاعها.

وهذا المعادل التعويضي ليس مفصولاً عن شروط أخرى تتصل بحسن تقدير القيادة لموازين القوى، ومنسوب القدرات الماديّة المدّخرة والخطط البديلة الجاهزة، وعناصر وحجم الإمداد المفاجئين للعدو أثناء المواجهة.
فالمسألة إذاً، ليست غيبيّةً بالمطلق، وإنّما واقعيّة عمليّةٌ تستقوي إراديّاً وإيمانيّاً بالغيب الذي يفيضه الله سبحانه، ليثبِّت المؤمنين وليبعث الرعب وسوء التقدير لدى أعدائهم.

أهل الإيمان وحدهم هم من يمتلكون أهليّة التعامل مع هذا المُعادِل الغيبي الإيماني الذي يقيم التوازن المطلوب، ويرجِّح كفَّة المؤمنين المقاومين على كفَّة العدو تبعاً لحسن اعتمادهم هذا المعادل مع توفير الشروط الأخرى المطلوبة منهم والتي أشرنا إليها فيما سبق.
على هذا الأساس، لا يوجد في قاموس أهل الإيمان المقاومين شيء اسمه يأسٌ أو إحباطٌ أو استسلامٌ للأمر الواقع الظالم والمخزي. يوجد على الدوام تحفّزٌ لمراجعة مكامن الخلل ونقاط الضعف ومسارب تسلل العدو، من أجل تصحيحها وترميمها وإعادة التأهيل.

والقيادة الناجحة، هي تلك التي تحسن التقدير وتعتمد المعادلة المناسبة في مواجهة العدو وتراعي التكامل بين الإمكانات والقدرات من جهة وتوفِّرُ المقدّمات الضروريّة لتنزّلِ الإمداد الغيبي بلحاظ جهوزيّة مجموعة من الشروط المطلوبة أو غير الحاجبة على الأقل لتَنَزُّلِ رحمة الله ونصره على المؤمنين في تلك الموقعة وفي ذلك الظرف.

«فلمّا رأى الله صدقنا، أنزل علينا النصر وأنزل بعدوّنا الكبت». «وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (*) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [المراجعة الذاتيّة] وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(*)»

■ ■ ■

هذه المعادلة للنصر ثابتةٌ لا تتغيَّر ولا تتبدّل، وإنما الذي يتغيّر أو يتبدّل هو نِسَبُ توافر الشروط الواقعيّة الماديّة والمعنويّة، وكذلك مقدّمات وشروط التدخّل الغيبي أو احتجابه. وإنَّ مواصفات القيادة المشرِفة، هي من أهم الشروط الواقعيّة الماديّة لتحقيق النصر المنشود في المواجهة.
وبقناعتنا أنّ النصر من الله يتنزّل على المؤمنين كما يتنزّل الغيثُ على الأرض، فمقاديرُ التنزّل في الأمرين، لها شروط ومتطلّبات ينبغي أن تتحقق مقدّماتها واقعيّاً…
«وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ».

وشهيدنا الأسمى أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله شكّل المنسوب الوازن والعامل المكمِّل والمثقِّل لشروط النصرِ ومقدّماتِه وتنزُّله على المؤمنين والمظلومين والمعتدى عليهم في لبنان.
ومردّ ذلك إلى فرادةٍ جَمَعَت عدداً من الصفات النموذجيّة التي يندر اجتماعها في قائدٍ فرد.

فلقد بدا بوضوحٍ شخصيّةً قياديّةً مميّزةً ونادرةً في لبنان والعالم العربي والإسلامي، وظهر دوره جليّاً في رفع منسوب المقدّمات الواقعيّة المطلوب توافرها لِتَحَقُّقِ الانتصارات للمقاومة ضدّ العدو الصهيوني المحتلّ، جَمَعَ بين الإيمان والإخلاص وبين العلم والتفقّه والتحصيل الجاد والمعرفة للمستجدّات، وتمتَّع بذكاءٍ لافت وفطنةٍ في قراءة الواقع وتطوّراته يستندان إلى حضور ذهني متوقِّد وديناميكي، وإلى تفكير رؤيوي ومنهجي علمي في التخطيط وبرمجة الأولويّات والاهتمامات، إضافةً إلى إبداعٍ مذهل في إيجاد البدائل المناسبة واختيارها والقدرة على الإقناع واستخدام اللغة المعبّرة عن المقاصد والخافية في آنٍ لبعض المضمرات من التوقّعات والاستعدادات.

كلّ هذه المواصفات وفّرت لديه كاريزما قياديّة جاذبة واستثنائيّة مكَّنته من التصدّي للمستجدّات بكل ثقةٍ وإلمام بالاحتمالات.
وبهذه الكاريزما أمكن للأمين العام لحزب الله الشهيد الأسمى أن يعوِّض نقص المنسوب المتوافر لدى المقاومة من الإمكانات والقدرات ليتلاءم المستوى لديها، مع ما يُفترض أنّ العدو يمتلكُهُ في الضفّةِ الأخرى.

لا يوجد في قاموس أهل الإيمان المقاومين شيء اسمه يأسٌ أو إحباطٌ أو استسلامٌ للأمر الواقع الظالم والمخزي

ومما لا شكّ فيه أنّ عبء الإدارة التفصيليّة والمتابعة التنظيميّة والتنفيذيّة الذي تحمَّله معه سماحة السيد الشهيد هاشم صفي الدين، قد وفّر له جانباً كبيراً يطمئن فيه سيّد المقاومة إلى حُسن الأداء ودقّة المقاربة وإتاحة المزيد من الوقت للانشغال بالأولويّات التي تفرض عليه متابعةً حثيثةً ومتواصلة.

تكامل الدورين، شجّع عليه تكامل وتقارب الطباع والمنهجيّة في ظلّ وحدة القناعة والانتماء والإحساس بعظيم المسؤوليّة، وقيام الإخوة الآخرين في منظومة القيادة بوظائفهم المحدّدة.
لقد كان السيد الهاشمي (رض) الحفيظ الأمين والعضد المعين والمُحِبَّ المخلص والناصح، وقناة التواصل الآمنة حين تضيق السبل وتنحصر الخيارات.

وسيُنصِف التاريخ هذا السيّد الطاهر الذي دائماً ما أحبَّ الظِّل وفضَّل العملَ الجادَّ الهادئ البعيد من الضوضاء وعاش الوداعة والمحبَّة للمؤمنين والمقاومين وعائلاتهم وعائلات الشهداء والجرحى والأسرى وفقاً لسيرة قائده السيد حسن رضوان الله عليهما.

■ ■ ■

في حرب الإسناد، جَهِدَ سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله لتعويض نقص قدرات المقاومة ماديّاً ومعنويّاً. إلا أنّ أمرين أساسيين مستجدَّين أثّرا سلباً في تلك الجهود:
أولهما: حجم الانخراط الغربي الدولي المباشر والسريع، لا سيما منه الأميركي، في الحرب جنباً إلى جنب مع كيان العدو الصهيوني الغاصب، ومن دون أي تحفّظ، وهو ما كان نادر الحصول فيما مضى، ولا يفسِّره إلا الخوف الحقيقي الجدّي على بقاء الكيان ودوره المرسوم له بهدف سيطرة الغرب المستكبر على المنطقة.

ثانياً: حجم التقدّم التقني ولا سيما السيبراني الذي حازه العدو أخيراً، ومكّنه مع انضمام إمكانات الغرب عموماً ومخزون دوله الاستخباريّة والمعلوماتيّة، وتيسير سبل العدو للاستفادة منها، أن يحقق انكشافاً كبيراً للمقاومة كان يصعب عمليّاً حجبه أو إخفاؤه عن العدو في تلك المدة.

هذان الأمران حاول الشهيد الأسمى أن يقلل من مخاطرهما قدر المستطاع، لكن حاكميّة المعادلة الموضوعيّة وسنّة الله في الوقائع والتاريخ، أقوى من أن تُردَّ أو تُتجاوز.

لقد استُشهِدَ سماحته وترك للمقاومة إرثاً جهاديّاً زاخراً يمكنّها بعون الله من ترميم أوضاعها وتصويب نقاط الخلل والثغرات التي انكشفت لديها أثناء المواجهة. وحمّلها مسؤوليّة المراجعة والامتثال لقوله تعالى: «وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [سيّما عند المراجعة] وإسرافنا في أمرنا».

أوّل مهمات المقاومة ومسؤولياتها اليوم بعد إكمال مراجعتها الدقيقة والشاملة. المسارعة إلى ترميم قدراتها على المستويات كافّة، وإعادة النظر في خططها لمواجهة العدو الصهيوني في ضوء ما نجم عن غزوته الأخيرة، وما أحدثته من مناخات سياسيّة وأمنيّة في لبنان والمنطقة والعمل بأقصى المستطاع على ردم الهوّة التي خلّفها استشهاد السيد الأسمى حسن نصر الله على المستوى التنظيمي والتعبوي والمعنوي والاستنهاضي ومعالجة تأثير ذلك في العلاقات السياسية مع الحلفاء والخصوم والأعداء، وإعادة التوازن المطلوب لمواصلة السير باتجاه إسقاط أهداف الكيان الصهيوني وإحباط مشروعه المتنمِّر في هذه المرحلة.

إنّ المقاومة الإسلاميّة التي تواصل اليوم تحمُّلها لمسؤوليّتها الجهاديّة بدأبٍ وسرعة، وتقوم بدورها المطلوب دوماً وبحكم الضرورة والمعطيات الواقعيّة في بلدٍ كلبنان، لن يمنعها عن أداء واجبها الوطني والإنساني كلُّ المعوّقات السلطويّة المشينة والمستجيبة لإملاءات العدوّ وحلفائه الداعمين لاعتداءاته، وهي إذ تنهض بهذا الدور فإنّها تمارس حقّها الإنساني والأخلاقي والدولي والحقوقي والدستوري والميثاقي خلافاً لكل الفذلكات والترّهات القاصرة التي ساقها المتورّطون لتبرير تنكّرهم لفضل المقاومة ولإنجازاتها، ولتجميل إذعانهم وقُبح فِعلتهم واستخفافهم بوجوب السعي بسرعة إلى ترميم القدرات الوطنيّة وتعزيزها في مواجهة العدو، ومسارعتهم المريبة إلى تقديم مراسم الخضوع والسقوط أمام إرادة العدو الصهيوني وطغيانه الذي ستنكسر شوكته حكماً وستلقَفُ عصا المقاومة كلّ أفاعي المعتدين والمسوّقين لمشاريعهم.

وبكل شجاعة وصراحة، ينبغي أن ندرك أنّ العدو الصهيوني إذ يستظلّ بحماية ودعم الإدارة الأميركية الطاغوتيّة، على كل المستويات، تجاوز مستوى الإحساس بالقدرة على غزو عواصم المنطقة وتأديب سلطاتها، إلى مرحلة الحرص المتنامي على مواصلة إذلال شعوبنا العربيّة والإسلاميّة حتى يصبح أكبر همّها الحصول على لقمة العيش بعد الإذعان والتسليم للعدو بسطوته الأمنيّة والعسكريّة وبقدرته على تقرير مصير المنطقة وبلدانها.

إسقاط هذا العلُوّ الذي يتملَّك اليوم الصهاينة المحتلّين، هو واجب كل الشرفاء والأحرار في منطقتنا والعالم… ومنطق التاريخ يؤكد أنّ التمادي في الاستعلاء هو أسرع سبيل نحو الارتطام بالهاوية.

ختاماً، يبقى التأكيد على أنّ ما يعزّز الثقة والأمل أيضاً هو يقينُ شعبنا وأبناء أمّتنا بحقوقهم المشروعة والتزامهم بالخيار المقاوم والمجدي في الدفاع عن أوطانهم وحماية سيادتها ضدّ كيد الأعداء الطامعين من جهة، ورفضهم الشاجب والمتصدّي لمقولات كل من ركِبَ مركب الخذلان والانهزام والتطاول على المقاومين والطعن بشرعيّة سلاحهم تملّقاً للعدو وأسياده وانصياعاً لإملاءات المطبِّعين والساعين إلى فرض وصايتهم على بلادنا وسياساتها.

اقتفاء الأثر

 وتحت هذا العنوان كتب إبراهيم الأمين:

لم يكن حسن عبد الكريم نصرالله من عالم آخر. حكايته الشخصية، هي نفسها التي تخص أبناء جيل تناوبت على وعيه ثلاثة عقود تلت الكارثة الإنسانية الكبرى بقيام إسرائيل. وُلد بعد عقد من النكبة الكبرى، في كنف عائلة من بيئة هجرها احتلال فلسطين، لينطلق بعد عقد آخر، باحثاً عن نفسه في خلاص ديني، ليجد نفسه، في قلب المواجهة مطلع عقده الثالث.

حسن، الشاب، الذي بحث عن سبيل مناسب للخروج من دائرة القهر الأولى، لم يختر تجارة الأهل. ولا سار خلف أقران، أخذتهم الحرب على حين غرة إلى حيث الموت المفتوح من دون سؤال عن المآلات الكبرى. وخلال سنوات نموّه السياسي الأول، فهم أنّ مواجهة الظلم والقهر، تحتاج إلى علم حقيقي. لكنه، لم يكن أصلاً في وضع يختار فيه علوماً حديثة كالتي قصدها آخرون، سواء كانوا فقراء أو من عائلات ميسورة. بل تكشف الأيام، أنّه كان يلحق بفطرة ليس معلوماً مصدرها الحقيقي. وكل التتبع لسيرته منذ صار عمره عشر سنوات، ليست كافية للإجابة عن السؤال الأهم، حول ما دفعه نحو العلوم الدينية.

لكنّ الشاب الذي غزاه الشيب، وهو يبحث عن سبل إكمال دروسه الدينية، وجد نفسه يسير بوعي، إلى حيث يقوده أثر الباحثين في علوم الدين. وعندما حط رحاله للمرة الأولى في النجف، لم يكن يخطر في باله، أنّه يواجه الامتحان الأول. كان عليه إظهار قدرته على تجاوز اختبار مطابقة العلوم المقصودة بأمور الحاضر. وكل الإيمان الذي سكنه حتى يوم استشهاده، وقناعته الكلية بوجود الله، والحياة الأخرى، لم تكن حيلة له كي يهرب من هذا الاختبار. بل هو اختار، عن وعي كامل، أن يكون إلى جانب شباب يفكرون في أحوال بلادهم وناسهم، ملتزماً مساراً آخر في رحلة اقتفاء الأثر.

لا علم لي، بمصدر فهمه لموقعه بين تلامذة العلوم الدينية، كونه من سلالة النبي وأهل بيته. لكن من عاصره في سنوات النجف القليلة، يروي أنه لم يكن متهيباً لالتزام موجبات العمامة والجبة واللباس الجديد. كان يعرف، أنه أمام مستجد سيؤثر في أشياء كثيرة في حياته. وهو الذي لم ينزع عنه الثوب الديني، إلا حيث يكون مضطراً، ومع ذلك، ظل يختبر ذاته في الاحتفاظ بكامل سلوكه الأصلي، ولو أوجبت التحديات عليه التخفي، عن أعداء أو محبّين. وفي سيرة انخراطه في العمل العام، استمرت لنحو خمسة عقود، عاش معظمها كمناضل يرتقي سريعاً سلّم المسؤوليات، ليكون أول قائد سياسي، وجنرال عسكري على هيئة رجل دين، ومسؤول عن إدارة مؤسسة تهتم لأحوال ملايين كثيرة من ناسه المنتشرين في كل الأمكنة.

حكايته الشخصية، هي نفسها التي تخص أبناء جيل تناوبت على وعيه ثلاثة عقود تلت الكارثة الإنسانية الكبرى بقيام إسرائيل

ورغم كل ذلك، فإن حنينه إلى حلمه الأول، بسلوك درب العلماء، كان يبحث عنه في أوقات يسرقها في مناسبات، وظروف، تتيح له التصرف بطريقة مختلفة. ومع ذلك، قد يكون هو رجل الدين الوحيد، من آلاف، يضطر إلى المراعاة كثيراً، ويحتاط في كل كلمة يقولها من على منبر العالم الديني، فقط، لأنّ اقتفاء الأثر الذي اختاره، وأراد للناس أن تلحق به في دربه الطويل، أوجب عليه مرة جديدة، عدم الذهاب بعيداً، في الحديث عمّا يحب من عناوين وأبحاث وأفكار…

لكن فكرة اقتفاء الأثر عند رجل مثل نصرالله، لم تعد ملكه فقط. بل صارت مع الوقت، فصلاً في حكاية طويلة، في شؤون الناس والحياة والتعبّد أيضاً. لكن صورته التي يعرفها الناس جيداً، بقيت، تلك التي تسمح لرجل، تسكنه هواجس العلاقة بالله كل الوقت، أن يبتعد كثيراً عن حرفة الناسك، وما أُتيح له من وقت، فيه مجال للقراءة، كان مناسبة ليعود إلى كتبه الدينية الأحبّ إلى قلبه وعقله، يفعل ذلك بصمت، ولا يشعر من حوله بشغفه الكبير، وعندما يعود إلى الناس خطيباً، يجهد قليلون في البحث عن الجديد في لغته، وعن المفردات الإضافية التي احتلت خطابه، وعن طريقة فهمه لعالم الغيب، وهو المسكون أيضاً، بعلوم الواقع وعلميته.

رحل السيد في لحظة تناسب كل تاريخه الشخصي. ورحل كما كان يرغب، فارساً يشهر سيفه في وجه جزّار العصر، واثقاً من قدرته على جعل موته، حقيقة يلفها الغموض. ما جعل كثيرين، يحلمون بأنّه سيطل من بين الجموع رافعاً يده، وهاتفاً بالناس، أن قوموا، حيّ على الجهاد…

قلة يجب أن تكون جريئة للتفكير في كتابة سيرة منصفة لهذا القائد، وكثرة، يجب أن تمنع أحباء أو أعداء عن المحاولة الناقصة. لكن الجمع كله، يقف قبالة صوره المنتشرة في كل الأمكنة، وصدى صوته لا يتوقف عن اقتحام الآذان أينما حل. وهو جمع، يُتاح له أيضاً، أن يفعل ما فعله بطلهم، وأن يسير الكل مجدداً، في رحلة اقتفاء الأثر. والأثر هنا، هو أثره، إنساناً لم تتعبه الدنيا يوماً لتقعده، ولم يهرب من تحديات الحياة، ولم يخف من لحظة المواجهة، فظل يسير بخطى ثابتة، نحو مصير بدا محتوماً!.

هو حسن عبد الكريم، وهو السيد حسن، وهو القائد حسن، وهو واحد من قلة، يُتاح لك أن تتذكره كل الوقت، ليس لتبتسم لحظك أن عاشيته عن قرب، بل، لأنّ الذكريات معه وعنه، هي أشبه بدليل، يجعلك واثقاً من السير بخطى ثابتة إلى مصدر النور. وهو يترك لك، أن تختار ما تراه مناسباً، فلا مشكلة إن كان الصفح عندك أقل من الحزم في مقابل أشدّاء، ولا مشكلة لك إن كنت متسامحاً، حيث ينتظر الآخرون منك القسوة مهابة وخوفاً. لكن، دليله الذي تركه بين يديك، ليس في الحقيقة، سوى الأثر الذي تركه بشهادته السريالية، هو الأثر، الذي وجب علينا اقتفاؤه إلى يوم الدين!

 

 

لو كنتُ أعلم

 وكتبت مريم البسام تحت هذا العنوان:

وحده التاريخ سيكون متألقاً عندما يهمُّ في كتابة سيرته، وقد يلهمه ابن الخيام ومملكة درْدارتها حسن عبدالله، فيشيّد معمارية نثرية عن رجل: ما غادر الميدان، لا في السلم مفتقدٌ، ولا في الحرب مفتقدٌ، ولا في المهرجان.
ولهذا التاريخ أنْ يهتدي غداً بمزايا تقيم غالباً خارج أبراجه، كما خارج نصوصه وحروفه القاسية شديدة اللهجة، فالسيد الآتي الذكر، لم نأتِ على ذكره رجلاً شعبياً تفيض الإنسانية من روحه، ويتمتع وجدانه بخلايا وجينات بيروت التي تَنسّمَ هواءها ولداً وفتياً في حي شرشبوك الواقع على مرمى حجر من مرفأ المدينة وحي المسلخ الشائع الشعبية.

وأنْ تجالسه، يعني أنْ تقبض على ملامح عمامة انشقت من ملح المدينة ورائحة بحرها وخبز أولادها المكسور، وتحت تلك القماشة السوداء تنام جروح الجنوب التي اشتمّها ابن الحاج عبد الكريم والحاجة نهدية صفي الدين بحراً وبراً.
وهنا نحن الآن في حضرة سيد، كما نردد في مجتمعاتنا، «بيخاف الله» ويمشي في شرعه. وهو دائم السؤال عن الناس وأحوالهم، عن نقمتهم ورضاهم، عن احتياجاتهم وصعوباتها، ويحرص على تفصيل التفصيل لكأنه أب يسأل عن أولاده.

يحدثك كجارٍ تعرفه من زمن، ويهتم برأي تدلي به، يستمع إليك بإصغاء شديد، يُشعرك بأن ما تقوله مُقدّر عنده ويكسر رتابة الحديث بحركة تزيل عنك رهبة الاجتماع.
كان لي فرصة لقائه قبل وبعد حرب تموز، لكن الجلسة الأكثر قرباً وعلى المسافة صفر من إنسانيته وعفويته، هي تلك التي سبقت مقابلة تلفزيونية أعقبت حرب 2006.

لأيام، لم يكن قد ظهر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بعدما رافق اللبنانيين طوال مرحلة العدوان تلفزيونياً أو عبر رسائل هاتفية. وبعد صمت أعقب وقف إطلاق النار، أراد أن يكرّم تلفزيون «الجديد» وهو الذي كان مشاهداً متابعاً لكل يوميات الحرب وراصداً لمقدمات النشرات الإخبارية وعباراتها ومواقفها.

بعد تسعة عشر عاماً على تلك المقابلة، وفي غيابه، أستسمحه ببضع محضر سبق اللقاء. وبضع أداء، ظل عالقاً في البال عن رجل من بلدي. عن قائد تجمّدت على ضفته بحور شعر، وعن زعيم افتدى الأرض وفلسطين بدمه. وبعد الشهادة عُثر على بقع من الآثام التي أهدرت وطنيته وأرْدتها مضرّجة بقلة الوفاء.

لو كنتَ تعلم يا سيد،
لو قرأت قصيدة شوقي عن قمصان يوسف لوجدت أن «هذا الزمانُ الذي برأ الذئبَ من شبهة الدم فوق قميصكَ ليس زمانك، وهذا الحصان الذي لم تخنْ برقَه المتردد خانكْ. أما إخوتك فقد اتحدوا مع قميصكَ ضدَّ دموع أبيك، فلا تتعلق بدلو الأمانِ الذي انتحلوه لكي يخدعوكَ، تَوَقَّ أحابيلهم وابتكر من خيوط الهلاك حبالك».
اختلفوا يا سيد على طيفك ينوّر صخرة، تشفّوا قبلها بعمق الحفرة، وزادوا طناً من القهقهات على ثمانين طن متفجرات.

وقبل الخناجر في أقصى الحفرات… كيف كانت الطريق إلى السيد؟
وأي حال كنا فيه عندما نلتقيه؟ كيف يحدثنا ويمازحنا ويكشف عن وجه إنساني لا تزيّفه السياسة ولا ينتمي إلى ثعالبها .
في الطريق إليه لم يتم «عصب العيون» كما يتردد، ولا شيء من هذا القبيل سوى سيارة داكنة لا ترى منها سائقها، وإجراءات مشددة لا تصطحب فيها أيّاً من طواقم العمل وعدة التصوير، ولا شيء تحمله معك من غطاء الرأس حتى القلم.
تدور السيارة فوق الأرض وتحتها، وأنا أفكر بمضمون اللقاء من دون تدوين، وعزّ عليَّ ألا أتمكن مسبقاً من كتابة مقدمة خاصة به، بصوته الذي انتشلنا من خوفنا، عندما دعانا إلى أن ننظر إليها تحترق في عرض البحر.

نصل إلى مبنى في ريف الضاحية ونصعد إلى طابق سادس غير مرئي، اعتقدته محطة ترانزيت قبل الانتقال إلى مكان اللقاء.
ندخل إلى شقة تجهزت فيها أركان المقابلة من الكاميرات والمصورين إلى الورقة والقلم، وهنا لا زلتُ أنتظر أن يتم نقلنا إلى ركن آخر ومنطقة أخرى، لأن السيد حسن لا يُرجَّح أن يكون هنا، في بيت من عمارة عامرة بناسها.
وفي صالون بيت مسكون، تعلوه صور أطفال ولوحات زيتية، أجلس على كنبة مرتبكة شكلاً ومضموناً، وأبدأ في وضع الأسئلة مع حيرتي في دبوس أغرزه في الإشارب ولا يهتدي.

وعند هذه المعركة ونظري إلى الأرض، أرى حذاء قد زينته قدَمان… ليس ملمعاً وبدا أن الطرق وضعت لمساتها عليه.
أنظر إلى فوق فأصطدم بهالته: «انت هون؟»
يجيب: «أي، وما تسأليني نحنا وين، متلي متلك، ما بعرف كيف جابوني».
أخبرته على الفور بأنّي لست محاورة ولا صلة لي بالشاشات في الأصل، وأني رشحت أحد زملائي لإجراء المقابلة لكن فريقك رفض ذلك وأصرّ على أني مطلوبة بالاسم.
قال: «أحببت أن يكون هذا التكريم لكم عبرك، فأنا لا أنسى دور محطتكم الداعم لقضية المقاومة، وأنكم حولتم شاشتكم إلى جسر عبور بين الناس».

رديت أن هذا واجب وطني سوف نقوم به حكماً، وتلك سياسة المحطة التي ربينا عليها، وأن العدو الإسرائيلي لا يترك لك الخيار في أن تكون وطنياً بالفطرة ضده متى اعتدى على بلدك.
وإذ أدليت بهذا وبصوت خافت، أدركَ السيد حجم رهابي من هذه المقابلة فنصحني بالهدوء وضبط أعصابي وقال: «اشربي الشاي»، وأخذ قطعاً من المكسرات والجوز والزبيب وراح بتفتيت بعضها بيده: «بدك شوي منها فوق الشاي..أطيب».

ثم بدأ هو، بطرح الأسئلة:
«ماذا يقول عنّا الناس حالياً؟ كيف دبروا أمورهم في الحرب؟ هل لاحظتِ انزعاجاً من البعض؟ هل هناك لوم علينا؟ أنا أريد في هذه المقابلة أن أبدد مخاوفهم حيال غدهم، وأعدهم بأن كل شيء سيعود أحلى مما كان. الهدف من هذا اللقاء هو إعادة الإعمار، هناك دول ستساعدنا، ونحن منذ اليوم الأول لنهاية العدوان بدأنا بورشة العمل. الطمأنينة للناس أهم بند عندي، وبعده اسألي ما شئت من أسئلة».
لم تكن المقابلة مباشرة بل سُجلت مسبقاً على كاسيتات فيديو بواسطة مصورين من فريق الوحدة الإعلامية في «حزب الله».

وأحتار مجدداً في ألا «ينزح» الإشارب عن رأسي، فأنشغل عندها بوضعية إعادته إلى مكانه وأشرد عن السؤال والجواب.
لاحظ السيد حيرتي، فأرشدني من مكانه إلى طريقة مُحكمة في شك الدبوس وقال: «بلا معلميّة، هيك بتخلصي من هاللبكة وبيضل ثابت في مكانه».

وعاد الحديث الجانبي إلى قضايا الناس وأحوالهم، وإلى الأيام الـ33 التي قضوها نازحين، وما تخللها من محن وتنقل بين المدارس كأمكنة للنزوح، إلى اللحظة التي أطل فيها هاتفياً معلناً عن قصف الباخرة الإسرائيلية ساعر بعد يومين على العدوان، وتحدث حتى عن «النكات» التي درجت في تلك الأيام وعن توهان العدو في تحديد موقع «جسر اللوزية» لقصفه.

أخبرني أن بعضاً من هذا كان يبتسم له، وقال إن هناك تقريراً على «الجديد» (أعدته كلارا جحا) تناول أيام الحرب ونهفاتها الساخرة، وزودني بأخرى غابت عنّا حتى تلك المتعلقة بمعادلة حيفا وهيفا،
أعطتني هذه الأجواء سماحة في الأخذ والعطاء، وكدت أن «آخد وج» قبل أن أعود إلى رشدي. اللقاء سيبدأ بعد قليل وعندي ألف سؤال عن الحرب والحزب وطاولة الحوار، حين كان قائمة
قبل عدوان تموز، كان السيد يشارك شخصياً، يقدم اقتراحات إستراتيجية ويناقش ويستمع إلى مخاوف فريق آخر في البلد، أما بعد تموز فالأمور اختلفت عنده،
«لقد غدروني. كيف بدي اقعد مع مجموعات حللت دمي في الحرب، اتفقت عليي وعلى شعبي. انتي شفتي السنيورة؟ والأركان؟ شفتي اجتماع السفارة؟ هودي بعد بتعطيهن ضهرك؟ طعنوني بالضهر… واسألي… اسألي هون قد ما بدك. ليه بدي اتخبى ورا العبارات وفتش عن كلام بيجمعنا إذا هني مش مستحيين بأعمالهن.».

«في قلبي حريق» يقول، «صدقاً تفاجأت، الأميركي والإسرائيلي كانوا يرضخون ويمنحون فرص تفاوض وهم لا، طيب يمهلوني قبل أن يتآمروا عليّ ويقدموا شعبنا لقمة سائغة في السفارة الأميركية. هذا جبن وحقارة. ولن أجلس معهم مجدداً. لن أقطع الحوار، سأظل متمسكاً بلغة التحاور، وسأنتدب ممثلاً عن الحزب. لكن شخصياً لم أعد أتنقل كما زمان، عدا عن إني ما إلي نفس شوف أشكالهن».
وأسأله تحت الهواء: «طيب يا سيد، في الحرب هل كنت تتنقل، وكيف، ألا تخشَ الاستهداف؟».

يجيب: «من وقت لآخر أنا والإخوة كنّا نطل، وفي مرة أكلنا بوظة في أحد أحياء بيروت، وكنت أتفقد الشباب والناس. ما انقطعت عن الزيارات لكن أكيد بحرص شديد وبتورية في الشكل. إذا شفتيني ما رح تعرفيني».
«وهل ندمت يا سيد على إنك وضعت البلد في حالة حرب؟ هل لو عاد بك الزمان ستكرر ما حدث في خلة وردة؟».
يجيب: «وكمان هون اسألي اللي بدك ياه… رح جاوبك ما تستعجلي، شرط ألا تقاطعي فكرتي. اتركيني بعد سؤالك أن أسترسل لأن أفكاري ممنهجة».

يقلع النظارة، فتبدو لك أن تلك العيون أصغر مما تراها على الشاشة، ويحمل محرمة ليزيل آثار عرق آب بعد أن أمر القيمون على الأمن بإطفاء التكييف لضرورات التسجيل. ثم يتراى أمامي جوابه حيال ما عُرف لاحقاً بعبارة «لو كنتُ أعلم» وشرح البُعد الإنساني لجوابه الذي سيتصدّر لاحقاً عناوين البحث.

قال: «ما تعودت المراوغة والأجوبة التي تحتمل مئة ألف تحليل. أنا مباشر مع أبناء وطني وجلدتي، أحدثهم كأهل بيتي، صادق معهم. كيف لي أن أخطط لقتلهم وتشريدهم… طبعاً لم تكن لدينا الحسابات أن عدونا سيدخل في حرب لأجل جنديين. فلا أنا أقبل، ولا الأسرى في السجون الإسرائيلية يقبلون. ولدي أسبابي الإنسانية والأخلاقية والعسكرية التي سوف أفصلها في المقابلة إذا ما أردت سؤالي».
«ولكن يا سيد، هذه غزة أمامنا. انظر ماذا كان رد فعل الإسرائيلي على خطف الجندي جلعاد شاليط قبل شهر من الآن».

يجيب: «لكن فلينتظر العالم أن إسرائيل سوف تذهب إلى مفاوضة حماس وبشروط المقاومة ولو بعد حين، والأيام بيننا».
من وجهته، فإن الحرب لمن يرسم نهايتها، لكن فريقاً من اللبنانيين اعتاد الإسراع في تقديم فروض الطاعة للغرب، واعتاد تصديق ما ينسج حولنا من اتهامات… وليس آخرها اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولو يعرفون أي ود كان يجمعنا به، لو يستعمون فقط إلى عقيلته السيدة نازك بعد الاغتيال، والتي لم يراودها أي شك بنا… ليتهم على رزانة عقلها وقلبها الكبير».
بدأ الحوار المسجل، ولم يشترط سيده حذف أو عدم التطرق إلى أي موضوع، ولم أقدم أسئلتي مسبقاً سوى النقاش الذي دار بيننا مطولاً قبل الحلقة.

ولدى انتهاء أول شريط من الحلقة، وعندما أراد المصور تبديل الشريط ووضع آخر، طلب مني السيد أن أتوقف قليلاً ليجري بنفسه عملية مونتاج ذاتية تجنبني «المنتجة» في الاستديو، وقال: «سوف أستكمل فكرتي على ذات الجملة، طالباً من المصور أن يسمعه آخر العبارات لاستكمال الحديث على الوتيرة عينها، قائلاً: ما بدنا نعذبكن… هيك أسهل».

ينتهي اللقاء التلفزيوني فنبدأ بتقييم سريع ويبادر إلى القول «هلق رح يعلقوا ع موقف معين واحد، رح يقولوا تفضّل يا سيد حسن، إذا الحرب ما كنت بتعرف نتائجها لشو فتت هالفوتة… وانتي كمان نزلتي أسئلة وصرتي تكرري السؤال: لو كنت بتعرف انو هالحرب رح تكلفك 1200 شهيد، ودمار لبنان… طيب ع مهلك، بس عادي ولا يهمك. أنا صريح وحكيت اللي حسيت انو طالع من عقلي وضميري وما رح كذب عالناس… حتى عدوي بيصدقني».

انتهى اللقاء الذي لم أشاهده على الشاشة لاني أمقتُ رؤية نفسي تلفزيونياً، استقليت «فان ركاب» إلى الجنوب أحمل طفلتي زهرة، هاربة بعيداً من حديث الناس وانتقاداتهم.
ها نحن هنا اليوم، نذكره شهيداً، كيف تمّ ذلك؟
عام على الغياب، ,ومثلي يردد كثيرون مع أنسي كلمات من حطب الغضب:
ما عدت أحتمل الأرض
ما عدت أحتمل الأجيال
فالأعرف من الأجيال يضيق بها.
ما عدت أحتمل الجالسين
فالجالسون دُفنوا.
لكن ذكريات السيد، تجيء… لا تؤذي
لم يتعبْ ، ولم يذهب
ويلعبُ ضد كل اللاعبين على المكان
ما غادر الميدان.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى