رأي

فلسطين بين الاعترافات الدولية والواقع المر: أرض ممزقة وحلم لا يموت (زينب إسماعيل)

 

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز 

 

ليست فلسطين مجرد قطعة جغرافية على خريطة، بل ذاكرة إنسانية تختزن وجعًا وكرامة في آن واحد. قبل أن يتفجّر المشروع الصهيوني وتنتشر المستوطنات مكان أشجار الزيتون، كانت فلسطين أرضًا واحدة ممتدة على نحو 27 ألف كيلومتر مربع، عامرة بمدنها التاريخية كيافا وحيفا والقدس وغزة ونابلس، وريفها الذي يفيض بالقمح والبرتقال والزيتون. لم تكن الأرض بحاجة لتعريف ولا لاعتراف؛ فهي ببساطة الوطن الذي ينهض مع كل صباح على أصوات المؤذنين وأجراس الكنائس.

 

لكن النكبة عام 1948 قلبت المشهد رأسًا على عقب: احتلالٌ وتهجيرٌ ومجازر أودت بحلم الاستقلال، لتتحول فلسطين من وطن كامل إلى شعب ممزّق. سبعة عقود بعد ذلك، ما تبقى للفلسطينيين فعليًا لا يتجاوز 22% من الأرض التاريخية: الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذان الجزءان أُخضعا في 1967 للاحتلال العسكري الإسرائيلي، ليتأكد أن فلسطين دخلت مرحلة جديدة من التشظي الجغرافي والسياسي.

 

اليوم، المشهد أكثر قسوة: سلطتان فلسطينيتان تتقاسمان ما تبقى من وطن ممزّق: سلطة في رام الله نشأت من رحم اتفاق أوسلو، وسلطة في غزة تستند إلى خيار المقاومة. الانقسام بينهما، الذي استثمرته إسرائيل بدهاء، جعل القضية الفلسطينية في نظر البعض أقرب إلى صراع داخلي على سلطة محدودة، بدل أن تبقى معركة تحرر وطني.

 

وسط هذا الواقع، يطلّ العالم من بعيد. فرنسا وبريطانيا وأستراليا واليابان وكندا، ومعها دول أوروبية صغيرة مثل لوكسمبورغ ومالطا وموناكو، أقدمت على الاعتراف بدولة فلسطين رسميًا، لتنضم إلى أكثر من 140 دولة سبق أن خطت هذه الخطوة. اعتراف بدا للبعض “تاريخيًا”، لكنه في عمق السياسة مجرّد ورقة دبلوماسية لا تُغيّر المعادلة على الأرض. فأي دولة هذه التي يُعترف بها بلا سيادة على حدودها، بلا سيطرة على مواردها، وبلا حق في تقرير مصيرها؟

وليس بعيدًا عن هذا المشهد، يساور الفلسطينيين خوف عميق من أن يُستخدم هذا الاعتراف الدولي، بدلًا من دعمه، لتقزيم حقهم التاريخي بالأرض الكاملة، وتحويله إلى حدود رمزية لا تغني ولا تسمن، تاركًا حلم العودة والاستقلال حبيسًا في الأوراق والبيانات الدبلوماسية.

 

الدوافع وراء هذه الاعترافات متشابكة. ثمة ضغط شعبي وأخلاقي هائل بعد صور المجازر في غزة، حيث صار العالم يرى الاحتلال الإسرائيلي بأوضح صوره: قصف لا يرحم، حصار خانق، وحرمان من أبسط مقومات الحياة. فرنسا وبريطانيا، وهما من صاغتا مأساة سايكس–بيكو ووعد بلفور، تدركان أن استمرار المشهد الدموي يهدد ليس الفلسطينيين فحسب، بل صورة الغرب كله. لذلك أرادتا عبر الاعتراف أن ترسما لأنفسهما صورة الوسيط الأخلاقي، القادر على “إحياء حل الدولتين” الميت سريريًا منذ سنوات.

 

في المقابل، الموقف الأميركي والإسرائيلي واضح إلى حد الفجاجة: لا اعتراف ولا تسوية، بل فرض وقائع بالقوة. واشنطن تنتقد أي اعتراف فردي بدولة فلسطين باعتباره “معيقًا للسلام”، فيما تواصل إسرائيل سياساتها الاستيطانية بوتيرة متسارعة، تقتطع أراضي الضفة الغربية قطعة بعد أخرى، وتحاصر غزة حتى الاختناق. عمليًا، المشروع الصهيوني لا يرى في “حل الدولتين” إلا عائقًا مؤقتًا أمام حلمه الأكبر: السيطرة الكاملة من البحر إلى النهر.

 

إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، تدرك أن الاعترافات الدولية لا تهددها ما لم تُترجم إلى إجراءات فعلية: عقوبات اقتصادية، مقاطعة للمستوطنات، أو دعم قضائي حقيقي في المحاكم الدولية. وما دامت هذه الاعترافات تظل محصورة في لغة البيانات والمؤتمرات، فهي أشبه بضماد صغير على جرح نازف.

 

يبقى السؤال الأهم: هل يتخلى الفلسطيني عن حلم الأرض الكاملة؟

الإجابة تختبئ في تفاصيل الحياة اليومية. الفلسطيني في غزة الذي يحفر بئرًا تحت بيته ليستخرج ماءً مالحًا للشرب، يعرف أن الاعترافات الدولية لا تطعم أطفاله. الفلسطيني في الضفة الذي يرى مستوطنة جديدة تلتهم أرض قريته، لا يقتنع بأن بيانات العواصم الأوروبية تحفظ حقه. والفلسطيني في الشتات، الذي ورث مفتاح بيت جده في حيفا أو صفد، لا يفكر بحدود 1967 بقدر ما يفكر بحقه الطبيعي أن يعود إلى حيث طُرد.

 

الاعتراف الدولي بفلسطين مهم، لكنه ليس سوى محطة في طريق طويل. سيبقى الفلسطيني متمسكًا بأرضه، لأن ما يُزرع في الذاكرة لا تُزيله سياسات ولا اتفاقيات ولا دبلوماسيات مزيفة. ستظل المفاتيح المعلقة في مخيمات لبنان والأردن وسوريا شاهدة على أن حق العودة لم يمت، مهما حاولت إسرائيل وأميركا فرض “واقع جديد”.

 

فلسطين اليوم تعيش بين خياليْن: خيال تُروّجه إسرائيل مدعومة بالآلة العسكرية الأميركية، يرسمها كأرض مقطّعة أوصالًا محاصرة بالمستوطنات؛ وخيال آخر يحمله الفلسطيني في قلبه، أرض واحدة من البحر إلى النهر. الأول واقع مرّ تفرضه القوة، والثاني حلم عصيّ على الاندثار. والتاريخ، إن طال به الزمن أو قصر، علّمنا أن الأحلام التي تسكن وجدان الشعوب أقوى من كل جيوش الأرض.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى