رأي

بين الدعم المموَّه والخداع المالي: قراءة في إرث رياض سلامة (أسامة مشيمش)

 

بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

 

في ظهيرة يومٍ من أيام أيلول، في حديقة أحد المستشفيات جنوب لبنان، وبين شاي خفيف وحديثٍ أثقل، اجتمع عددٌ من شبّان بلدتي، ممن يتوزّعون بين العمل الاجتماعي والسياسي. كان الحديث دائرًا عن الشأن المحلي، وما يعتري البلدة من تحديات ومفارقات، حتى انتقل فجأة إلى الشأن الوطني، حين باغتنا أحد الحضور – رجل أعمال ذكي ومحنّك، على قدرٍ من الوعي الاقتصادي – بموقف صادم، حين قال: “علينا أن نشكر رياض سلامة، فقد استطعنا أن نعيش خلال الأزمة ببحبوبة اقتصادية بفضله.”

 

صمتتُ لثوانٍ وأنا أبحث في قسمات وجهه عن سخرية، عن تلميح إلى دعابة، لكنّه كان جادًا إلى حدّ الإيمان. وحين سألت: “ومن أين أتى الدعم؟” سكت، ثم غادر الجلسة بصمتٍ ثقيل، كمن اكتشف أنه لا يملك جوابًا.

 

إنها ليست حادثة عابرة. بل هي مرآة دقيقة تعكس حجم التضليل الذي تعرّض له اللبنانيون خلال السنوات الماضية، تحت غطاء ما يُسمّى بسياسة “الدعم”. والحقيقة أن ما حصل لم يكن دعمًا اقتصاديًا، بل كان استنزافًا ممنهجًا لاحتياطيات مصرف لبنان، أي ودائع الناس، تحت شعار “الصمود”، بينما كان يُدار في الخلفية أكبر خداع مالي في تاريخ لبنان الحديث.

 

من المفهوم أن يلتبس الأمر على المواطنين، خصوصًا في المناطق الطرفية، ممن رأوا في “الدعم” منفذًا مؤقتًا للتنفس. فأسعار المحروقات، والأدوية، والطحين، وحتى بعض السلع الاستهلاكية، بقيت منخفضة لفترة معينة، مقارنة بالتصاعد الجنوني لسعر الدولار في السوق السوداء. لكن ما غاب عن أذهان كثيرين أن هذه الأسعار المدعومة لم تكن نتيجة لسياسات إنتاجية أو اقتصادية رشيدة، بل نتيجة ضخ مليارات الدولارات من الاحتياطي الإلزامي، أي من الأموال التي لم تكن أصلاً ملكاً للدولة، بل أمانات الناس في المصارف.

 

رياض سلامة، الحاكم السابق لمصرف لبنان، لم يكن “داعمًا” بل كان مديرًا لحملة تأجيل الانهيار، على حساب دافعي الثمن الحقيقيين: المودعين، وصغار الكسبة، وأبناء الطبقة الوسطى الذين تبخّرت مدّخراتهم.

 

لو أردنا تقييم ما حصل من منظار علمي، فإن ما سُمّي بالدعم لم يكن سوى إعادة توزيع قسرية للثروة، من الشرائح الأضعف إلى شبكات التهريب والتجار الكبار. حيث كانت المواد المدعومة تُهرّب إلى الخارج أو تُباع بأسعار غير مدعومة داخل البلاد، فيما كانت المصارف تفتح اعتماداتها على حساب الاحتياطي. وهنا لا بد من السؤال الأهم: ألم يكن من الأجدر استخدام تلك المليارات في دعم مباشر للعائلات الفقيرة، أو في برامج حماية اجتماعية واضحة وشفافة؟

 

الإجابة يعرفها من تابع مسار حاكمية المصرف المركزي طوال السنوات الماضية. فرياض سلامة لم يكن فقط صانع السياسات النقدية، بل كان الطرف الأقوى في المعادلة المالية والسياسية، ممسكًا بخيوط اللعبة، بالتواطؤ أو السكوت المريب من طبقة سياسية فاسدة كانت مستفيدة من إدارته.

 

حتى اللحظة، لم يخضع سلامة لأي محاسبة جدّية داخل لبنان، رغم أن الدول الأوروبية فتحت ملفات تحقيق حول تحويلات مالية مشبوهة تتعلق به وأفراد من عائلته. ومع ذلك، ما زال البعض يُصرّ على تقديمه بصورة “المنقذ” أو “العبقري المالي”، رغم أن الأرقام والوقائع تفند هذه الأسطورة بالكامل.

 

الأزمة المالية التي بدأت عام 2019 لم تكن مفاجئة. بل كانت نتيجة طبيعية لمسار طويل من السياسات الخاطئة، أبرزها سياسة تثبيت سعر الصرف المصطنعة التي قادها سلامة على مدى 27 عامًا، والتي خلقت فجوة عميقة بين السعر الرسمي وسعر السوق. وعندما انهار النظام، انهار كل شيء دفعة واحدة، لأنه لم يكن هناك اقتصاد حقيقي يستند إليه البلد، بل وهم نقدي وإعلامي صنعه “حاكم مصرف لبنان”.

 

في الخلاصة، من السهل الوقوع في فخ الروايات التي تبرّر الكارثة، وتبحث عن “مُنقذ” بين الرماد. لكن الحقيقة، التي يجب أن نواجهها بشجاعة، هي أن من أدار النظام المالي في لبنان – ومنهم رياض سلامة – كان جزءًا لا يتجزأ من المشكلة، لا من الحل. والواجب اليوم، ليس في تمجيد من دمّر الاقتصاد باسم “الدعم”، بل في إعادة تعريف مفهوم الدولة والرقابة والمحاسبة، حتى لا نعيد إنتاج ذات الانهيار، تحت أسماء مختلفة.

 * خبير مالي واقتصادي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى