دور الشركات المتعددة الجنسيات في تكريس الفساد المحلي(سعيد عيس)

بقلم الدكتور سعيد عيسى – الحوارنيوز
في العقود الأخيرة، أصبحت الشركات المتعددة الجنسيات (MNCs) ركيزة أساسية في الاقتصاد العالمي، خاصةً في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية أو الاستراتيجية مثل النفط، الغاز، والمعادن. عند دخولها للاستثمار في أي دولة، تجلب هذه الشركات معها رؤوس أموال ضخمة، خبرات فنية متقدمة، وتكنولوجيا حديثة، مما يسهم في توفير فرص عمل واسعة.
ومع ذلك، تشير العديد من الدلائل إلى أن بعض هذه الشركات لا تكتفي باستغلال الفرص الاقتصادية فحسب، بل قد تسهم أحيانًا في تكريس الفساد المحلي. يتم ذلك إما بشكل مباشر عبر تقديم الرشاوى والعمولات، أو بطرق غير مباشرة مثل التهرب الضريبي، استخدام الهياكل القانونية المعقدة، أو إقامة تحالفات مع النخب المحلية.
الفساد لا يعد مجرد مسألة أخلاقية فحسب؛ بل هو عامل مركزي يعيق التنمية، ويزيد من الفقر، ويقلل من كفاءة الخدمات العامة، ويضعف الثقة بين المواطن والدولة. وعندما تتدخل الشركات الدولية في سياقات محلية غير شفافة، فإن الأمر لا يقتصر على أنشطة فردية، بل يمتد ليشمل بنى مؤسسية وسياسية تعيد إنتاج الفساد عبر الزمن.
في هذا النص، سنستكشف كيف تسهم الشركات المتعددة الجنسيات في تكريس الفساد المحلي، من خلال تحليل الصفقات الكبرى، التهرب الضريبي، الشراكات مع النخب، وأمثلة واقعية من بلدان مختلفة، مع التركيز على التجربة اللبنانية حيث أمكن. ثم ننتقل إلى المبادرات الدولية والإطار التشريعي، وأخيرًا اقتراحات عملية للإصلاح.
الإطار النظري
لفهم دور الشركات المتعددة الجنسيات في الفساد المحلي، لا بد من ربط عدة مفاهيم نظرية وواقعية.
أولاً، العولمة الاقتصادية، التي تمكّن الشركات عبر الحدود، وتفتح الأسواق للاستثمارات الأجنبية، والتدفقات الحرة لرأس المال والتكنولوجيا. هذه الدينامية تتيح فرصًا هائلة للتنمية، لكنها تفتح أيضًا منافذ للفساد إذا لم تُصاحبها آليات رقابية قوية.
ثانيًا، ضعف الشرعية المؤسسية في الدول النامية والمتوسطة، حيث تكون المؤسسات الحكومية والقضائية والإدارية خاضعة للتدخل السياسي أو الحزبي أو الطائفي. في مثل هذا السياق، يصبح تطبيق القوانين صوريًا، وتفقد أجهزة الرقابة فعاليتها، ما يتيح للشركات الكبرى هامشًا واسعًا للمناورة.
ثالثًا، مفهوم “التكلفة غير المرئية” للفساد. كثير من الشركات تعتبر الرشاوى أو العمولات مجرد بند مالي عادي ضمن تكاليف التشغيل. فهي ترى أن “تليين الطريق” بالمال أسرع وأقل كلفة من الدخول في نزاعات قضائية أو مواجهة بيروقراطية معقدة.
رابعًا، نظرية الفاعلين المتعددين، حيث يتولد الفساد من تفاعل معقد بين الشركات الأجنبية، النخب المحلية، الوسطاء، الأجهزة التنفيذية، وأحيانًا الهيئات الرقابية نفسها. لكل طرف مصلحة، فالشركة تريد الربح، النخبة تريد النفوذ والمال، والأجهزة تريد استمرار المنظومة.
خامسًا، حوكمة الشركات والأطر الدولية، حيث تحاول بعض الدول والمنظمات الحد من الفساد عبر أدوات مثل:
• قانون ممارسات الفساد في الخارج (FCPA) الأميركي.
• قانون UK Bribery Act البريطاني.
• اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC) (UNODC).
• مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI) (EITI).
لكن فعالية هذه الأدوات تتوقف على إرادة الدول المحلية ومدى قوة مؤسساتها.
الشركات المتعددة الجنسيات كمحرك للفساد
أ. الصفقات الكبرى والعقود الحكومية
تدخل الشركات المتعددة الجنسيات غالبًا عبر عقود ضخمة في قطاعات استراتيجية: النفط، الغاز، البنية التحتية، الكهرباء، والاتصالات. هذه العقود تُمنح عادة بغياب الشفافية الكافية. في بعض الحالات، تُدفع عمولات أو رشاوى لضمان فوز الشركة بالمناقصة، أو لتسريع التراخيص، أو لتجاوز قيود بيئية وقانونية.
مثال بارز هو فضيحة “Unaoil”، حيث كُشف أن الشركة لعبت دور الوسيط لدفع رشاوى لشركات نفط عالمية من أجل الفوز بعقود في العراق وأفريقيا (The Guardian).
ب. التهرب الضريبي والتحايل المالي
الشركات تستخدم آليات معقدة مثل التسعير التحويلي (Transfer Pricing)، حيث تنقل الأرباح عبر فروعها في دول عدة لتقليل الالتزامات الضريبية. كما تلجأ إلى الملاذات الضريبية مثل جزر كايمان أو لوكسمبورغ.
هذا السلوك يحرم الدول النامية من إيرادات حيوية. وفق تقرير منظمة OECD، تفقد الحكومات سنويًا نحو 240 مليار دولار بسبب استراتيجيات التهرب الضريبي للشركات المتعددة الجنسيات (OECD).
ج. الشراكة مع النخب المحلية
في بيئات ذات أنظمة زبائنية، تتحالف الشركات مع نخب سياسية أو طائفية محلية، مانحة إياهم حصصًا أو عقودًا ثانوية. في المقابل، تسهّل هذه النخب مرور المشاريع أو حمايتها من المحاسبة. هكذا يتحول الفساد إلى ممارسة مؤسسية متجذرة.
د. الأمثلة العالمية
• Trafigura، شركة تجارة السلع، تورطت في فضائح فساد بالبرازيل ضمن ملف “أوبراسيون لافا جاتو” الشهير، واضطرت لدفع تسويات بملايين الدولارات (FT).
• Sonatrach في الجزائر، حيث كشفت فضائح عن رشاوى مرتبطة بعقود الطاقة مع شركات أجنبية، وأدت إلى ملاحقات قضائية لمسؤولين كبار (Reuters).
هـ. الحالة اللبنانية
في لبنان، برزت عدة أمثلة على تداخل الفساد المحلي مع استثمارات أو شركات أجنبية:
• مشروع سد المسيلحة: أُنفق أكثر من 25 مليون دولار، ورغم ذلك ظهرت تقارير عن سوء التنفيذ وغياب الشفافية في العقود (Le Monde).
• قطاع الكهرباء: منذ التسعينيات، أُنفقت مليارات الدولارات عبر عقود مع شركات محلية ودولية، لكن دون تحقيق تغذية كهربائية دائمة. الكثير من هذه الصفقات ارتبطت بفساد مالي وإداري واسع (The National).
الأثر الاجتماعي والسياسي
ارتباط الشركات المتعددة الجنسيات بالفساد المحلي لا يقتصر على البعد الاقتصادي، بل يترك آثارًا عميقة اجتماعيًا وسياسيًا.
أولاً، تآكل الثقة بالمؤسسات. يرى المواطن أن الدولة عاجزة عن تقديم الخدمات، رغم تدفق الاستثمارات الأجنبية، لأن هذه الاستثمارات تهدر في شبكات فساد. البنك الدولي يقدّر أن الفساد يقلّص النمو الاقتصادي بما بين 0.5% و1% سنويًا في الدول ذات الشفافية المنخفضة (World Bank).
ثانيًا، توسيع فجوة اللامساواة. إذ تحتكر النخب الاقتصادية والسياسية المنافع، فيما يتحمل المواطنون العاديون عبء تراجع الخدمات وارتفاع الضرائب غير المباشرة.
ثالثًا، إضعاف الحركات الإصلاحية. إذ أن مواجهة الفساد تعني مواجهة تحالف بين النخب المحلية والشركات الكبرى، وهو ما يجعل محاولات الإصلاح محدودة التأثير.
المبادرات الدولية والحوكمة
لمواجهة هذه الظاهرة، ظهرت عدة مبادرات وأطر قانونية:
• اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC): تدعو إلى تجريم الرشوة الدولية وتعزيز التعاون القضائي (UNODC).
• مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI): تفرض على الدول والشركات الإفصاح عن مدفوعاتها وإيراداتها (EITI).
• قانون FCPA الأميركي و UK Bribery Act البريطاني: يجرمان الرشوة عبر الحدود ويشملان المسؤولية حتى عبر وسطاء.
• منظمات المجتمع المدني مثل Transparency International التي تصدر مؤشر مدركات الفساد (CPI) سنويًا، كأداة ضغط ورقابة دولية (Transparency International).
لكن نجاح هذه المبادرات يظل مرهونًا بمدى التزام الحكومات المحلية وقدرة مؤسساتها على فرض الشفافية.
الخاتمة والتوصيات
يمكن القول إنّ الشركات المتعددة الجنسيات لا تأتي بالضرورة كقوة مُفسدة، لكنها غالبًا ما تتكيف مع الواقع المحلي. في الدول ذات المؤسسات القوية، تجبر على الامتثال للقوانين، أما في الدول الهشة، فتندمج في شبكات الفساد.
التوصيات:
1. تعزيز الشفافية في العقود العامة عبر نشر تفاصيل العقود على منصات إلكترونية متاحة.
2. ربط تراخيص الاستثمار بالتزام الشركات بمعايير الشفافية الدولية مثل EITI.
3. تطوير قدرات القضاء المحلي في التحقيق بالجرائم المالية العابرة للحدود.
4. تمكين المجتمع المدني والإعلام ليكونا خط الدفاع الأول في كشف الفساد.
5. تعزيز التعاون الدولي لاسترداد الأصول وكشف مسارات الأموال.
في الختام، إنّ الفساد المرتبط بالشركات المتعددة الجنسيات ليس مجرد نتاج داخلي، بل هو انعكاس لتفاعل بين العولمة الاقتصادية وضعف المؤسسات. معالجته تتطلب مقاربة متعددة المستويات، تجمع بين الإصلاح المحلي، التشريعات الدولية، والرقابة المجتمعية. والاستثمار الأجنبي يمكن أن يكون رافعة للتنمية، لكن فقط إذا خضع لمنظومة شفافية ورقابة تجعل من المستحيل تحويله إلى أداة لتغذية الفساد.



