لبنان بين شبح الحرب الأهلية ومشاريع الهيمنة الإسرائيلية: خطر التوسع يطرق أبواب العواصم العربية (أسامة مشيمش)

بقلم د. أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
نجح الرئيس نبيه بري، في لحظة سياسية شديدة الحساسية، في إبعاد شبح الحرب الأهلية عن لبنان، ولو إلى حين غير معلوم. قرار رئيس الجمهورية، العماد جوزيف عون، جاء بعد ضغوط مركبة، دفعته إلى القبول بتسوية معقّدة، تفادت انفجاراً داخلياً كان سيعيد البلاد إلى أجواء 1975.
لكن التسوية، رغم أهميتها، فتحت الباب أمام ردود فعل لم تكن بالحسبان. فقد خرج الشارع المسيحي اليميني من حالة السبات التي امتدت لعقود، حاملاً معه خطاباً تحريضياً يعيد إحياء ماضي الحرب الأهلية، وكأن التاريخ يعيد نفسه. ذاكرة اللبنانيين التي تعبوا من محاولات دفنها، عادت لتُستنهض فجأة، وبطريقة غريبة، عبر محطات دامية حرص الجميع على نسيانها.
وما زاد من تعقيد المشهد الداخلي اللبناني، هو التدهور المتسارع في الإقليم. فالكيان الإسرائيلي يعيش لحظة انتشاء جيوسياسي غير مسبوق، مستفيدًا من دعم إدارة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، التي أعادت إحياء مشاريع التوسع الإسرائيلي تحت شعار “الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات”.
هذا المشروع لم يعد مجرد حلم أيديولوجي، بل صار طرحًا سياسيًا متكرّرًا في تصريحات كبار قادة الاحتلال، يتحدثون فيها علنًا عن ضم مناطق من سوريا، لبنان، مصر، الأردن، والعراق، كجزء من خريطة مستقبلية للدولة العبرية، في تجاهل تام لكل القوانين الدولية والحدود السيادية المتعارف عليها.
إلا أن الحدث الأخطر والأكثر فجاجة كان محاولة اغتيال قادة من حركة حما.س داخل العاصمة القطرية الدوحة، وهي عملية تشير كل الأدلة إلى تورط مشترك بين جهاز “الشاباك”، والجيش الإسرائيلي، و”الموساد”. أن تُنفذ عملية أمنية بهذا الحجم في قلب عاصمة عربية آمنة، يُعد تجاوزًا خطيرًا للسيادة القطرية، وللسيادة العربية عمومًا، واستفزازًا فجًّا لكل الدول التي سعت للتهدئة أو سارت في ركب التطبيع.
الرد العربي والإسلامي لم يتأخر. فقد أعلنت دولة قطر عن استضافة مؤتمر عربي وإسلامي طارئ في الدوحة، يهدف إلى إدانة محاولة الاغتيال بشكل رسمي وصريح، ووضع حد لتمادي إسرائيل في انتهاك سيادات الدول، خصوصاً تلك التي اختارت التهدئة، الحوار، والدبلوماسية بديلاً عن التصعيد.
المؤتمر، الذي يحظى بحضور واسع من ممثلين عن جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ودول رافضة للتوسع والاعتداء، يسعى إلى إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد أن كادت تضيع في زحمة التطبيع والمصالح التجارية والاستثمارات المشتركة. كما يهدف إلى إعادة تقييم السياسات العربية تجاه الكيان الإسرائيلي، خصوصاً في ظلّ تجاوز الخطوط الحمر حتى مع “الشركاء الجدد”.
إن ما جرى في الدوحة ليس حدثاً أمنياً معزولاً، بل مؤشر خطير على سياسة ممنهجة تتبعها إسرائيل، بدعم من واشنطن، تقوم على توسيع نفوذها الجغرافي والسياسي عبر القوة والاغتيالات وتفكيك الأنظمة القائمة.
في المقابل، فإن ما يُسمّى بـ”محور المقاومة والممانعة”، رغم ما يواجهه من تحديات داخلية وضغوط خارجية، وجد في هذا التصعيد الإسرائيلي فرصة لإعادة التموضع السياسي، والتأكيد على موقفه الثابت من رفض الاحتلال، ومواجهة التوسع بكل أشكاله. اللافت أن سياسات ترامب نفسها، رغم دعمها غير المشروط لإسرائيل، بدأت تُخلّف نتائج عكسية تهدّد استقرار المنطقة بالكامل، وتضع دولاً حليفة أمام خيارات صعبة.
أما لبنان، فلا يزال في قلب العاصفة. الانقسام الداخلي، الفساد، والضعف المؤسساتي، جعله هدفًا سهلاً لأي تدخل أو اختراق. شبح الحرب الأهلية لم يُدفن، بل ينتظر لحظة انفجار صغيرة ليعود، وسط خطاب طائفي متوتر، ومواقف داخلية مستفزة، تُعيد إنتاج مآسي الماضي.
وكما يقول المثل اللبناني: “المصلّح بيأكل نصّ القتلة”، فمن يحاول تهدئة الساحة يُهاجم، ويُتّهم، بينما الآخرون يصمتون أو يتربّصون بالخراب القادم.
اليوم، نحن أمام لحظة مفصلية. فإما أن نكون دولاً ذات سيادة فعلية، تقرر مصيرها وتحمي قادتها وأراضيها، أو نتحول إلى كيانات صورية، تُخترق متى شاء العدو، وتُستخدم أوراقاً في مفاوضات الآخرين.
الدوحة اليوم لا تمثل قطر فقط، بل تمثل كل عاصمة عربية تريد أن تبقى آمنة، حرة، مستقلة. والمؤتمر المنعقد فيها، ليس اجتماعًا عاديًا، بل صرخة في وجه مشروع بدأ يهدد الجميع بلا استثناء.



