بعد الحرمان والتهميش والاحتلال :متى يبتسم الجنوب؟ (أسامة مشيمش)

بقلم د. أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
يُحكم لبنان منذ تأسيسه بتوازنات دقيقة بين ثلاث قوى رئيسية تعمل بتنسيق غير معلن، لكنه فعّال، لا يراه ولا يفهمه إلا من غاص في تفاصيل النظام اللبناني وتشعباته.
التيار الأول هو التيار السياسي، وقد تمثّل طويلاً بما عُرف بالمارونية السياسية التي حكمت البلاد لعقود مدعومة من أحزاب اليمين المتطرّف، في الداخل والخارج، والتي عملت على ترسيخ مفاهيم الحصرية في الحكم والإدارة.
أما التيار الثاني، فهو التيار الديني، الذي تمثّل بالكنيسة المارونية بوصفها مرجعية روحية وسياسية، امتدت عباءتها لتشمل دار الإفتاء السني، والتي بدورها احتوت غالبية الطوائف الإسلامية الأخرى في مشهد شكلي لا يعكس بالضرورة موازين القوة الفعلية.
التيار الثالث هو الاقتصادي، المتمثل بجمعية المصارف والقطاع المالي، الذي تسيطر عليه رساميل مارونية وشخصيات نافذة من مختلف الطوائف، ساهمت في تكريس اقتصاد ريعي لا يخدم إلا طبقة محددة من اللبنانيين.
في مرحلة معينة من تاريخ لبنان، امتلأت خزينة الدولة، وتحققت وفرة مالية نادرة، واستقرت الليرة اللبنانية وأصبحت ذات قيمة ثابتة أمام العملات الأجنبية والعربية. في ذلك الوقت، كان من المنتظر أن تتجه الدولة إلى تعزيز التنمية في الأطراف وتوفير البنى التحتية الأساسية، من أجل أن يبقى أبناء هذه المناطق في قراهم ومناطقهم، معززين مكرّمين. غير أن الدولة اللبنانية اختارت خياراً مغايراً، تخلّت عن الأطراف، وركّزت الإنماء والاهتمام في العاصمة ومحيطها، متجاهلة الحاجة إلى عدالة اجتماعية ومناطقية. في تلك الفترة، شُجّع النزوح الداخلي نحو بيروت وجوارها، وظهرت أحياء شعبية فقيرة أنشئت خصيصاً لتكون خزاناً بشرياً يوفر يدًا عاملة رخيصة لأبناء العاصمة وأصحاب المصالح الكبرى.
هذا الانقسام ساهم في إنتاج مجتمع بطبقتين: طبقة غنية تزداد ثراء، وطبقة فقيرة تعاني من التهميش والحرمان. وقد شكلت هذه التراكمات الاقتصادية والاجتماعية الشرارة الأولى للحرب اللبنانية، التي لم تكن، في بداياتها، حرباً دينية كما يُشاع، بل كانت في جوهرها حرباً طبقية، بدأت نتيجة الانقسام الحاد بين من يملكون ومن لا يملكون، بين من يتمتعون بالامتيازات ومن يعيشون على الهامش. فقد كان الفقر في ذلك الوقت يجمع الشيعي والدرزي والأرمني والعلوي وباقي أبناء الطوائف المهمشة في خندق واحد. كان المشترك بينهم هو الحرمان، لا الانتماء الطائفي، وكانت السلطة تردّ على مطالبهم بالقمع أو التجاهل.
في هذه الأثناء، كانت التغيرات الجيوسياسية في المنطقة تفرض نفسها بقوة، وتدخل مفاهيم جديدة إلى الوعي اللبناني، مثل الخوف من الآخر، والانغلاق، والتقوقع الطائفي، إلا أن الشيعة في لبنان، الذين لطالما وقفوا إلى جانب القضايا الوطنية والقومية، ظلّوا متمسكين بمفهوم الوطن النهائي لجميع أبنائه، كما عبّر عن ذلك سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر.
الشيعة، الذين كانوا في طليعة النضال مع الأحزاب اليسارية مثل الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي، والحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى جانب الأحزاب القومية والقوى الفلسطينية، والحركات الناصرية، والبعثية بشقيها السوري والعراقي، وحتى حزب الوطنيين الأحرار في مرحلة معينة، لم يشاركوا في الحكم لا بعرف ولا بدستور ولا بقانون، بل تصدوا لتحمّل المسؤولية بدافع وطني، شعبي، وإنساني، لا سياسي.
بعد اتفاق الطائف، لم يُمنح الشيعة دوراً يناسب حجمهم السياسي والديمغرافي والاجتماعي، بل استُبقي تهميشهم ضمن نظام قائم على المحاصصة والصفقات، وتحوّل شعار المشاركة إلى وسيلة لتقييدهم أكثر مما هو لإشراكهم. ومع ذلك، تصدوا للمسؤولية في الحكم والدفاع عن الوطن، ولم يطلبوا من أحد اعترافاً بوجودهم، لأنهم أثبتوا هذا الوجود بالفعل، عبر التضحيات والمقاومة وبناء المؤسسات والوقوف في الصفوف الأمامية عند كل استحقاق مصيري.
من غير المقبول بعد كل هذه التضحيات أن يُطلب من من ضُرب بالأمس أن يطمئن اليوم إلى من ضربه، أو أن ينتظر منه إقرارًا بوجوده أو شراكة منقوصة تحت سقف التبعية. ليس من المنطقي أن يُمنّ علينا أحد بوجودنا في هذا الوطن، وكأننا ضيوف ينتظرون بطاقة دعوة. الجنوب، الذي أنجب قادة ومقاومين ومفكرين، لا يزال مهمشًا في أبسط حقوقه، في التعليم والصحة والبنى التحتية. والبقاع يعاني، والشمال محروم، والضواحي تعيش على فتات مشاريع لا تنمو إلا لتخدم صورة ما، لا واقع الناس. هذا ليس وطنًا متوازنًا، بل شركة مساهمة خاصة تديرها حفنة من المنتفعين.
وفي خضم هذه المعاناة، يخرج من لا يزال يتعامل بعقلية الحرب، حاملاً خطابات التحريض والتصعيد، كما فعل رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، في كلمته الأخيرة بمناسبة شهداء الحزب. خطابٌ حمل في طيّاته تنمّراً سياسياً مفضوحاً، واستثماراً مكشوفاً في جراح اللبنانيين ومعاناتهم، متقمصًا ثوب الحريص على الدولة، فيما يمارس حزبه نهجًا ميليشيويًا بوسائل قانونية وشعبوية على السواء. فمن خلال وزراء لا يعكسون إرادة الناس، بل مصالح الفئة، وكوادر تستغل الإدارات والمؤسسات لمراكمة النفوذ، يثبت هذا الخطاب أنه لا يبحث عن شراكة وطنية، بل عن هيمنة مقنّعة بالشعارات. لبنان لا يحتاج إلى زعماء يعيدونه إلى خطوط التماس القديمة، بل إلى رجال دولة يخرجونه من مستنقع الانهيار والانقسام.
كما قال الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، “لن نقبل أن يبتسم لبنان ويبقى جنوبه متألماً”. هذه ليست مجرد عبارة عاطفية، بل موقف سياسي وأخلاقي وإنساني لا مساومة عليه. لن يقبل أبناء الجنوب، ولا أبناء الأطراف، أن يُطلب منهم السكوت بعد أن دفعوا أغلى الأثمان في سبيل بقاء هذا الوطن.
الشراكة لا تكون عبر الإعلام والمؤتمرات، بل عبر فعل تنموي حقيقي، وعدالة اجتماعية ومناطقية، وإصلاح جاد يضع حداً لاقتصاد الريع والفساد. الوطن ليس ملكاً لطائفة أو فئة، بل هو حق لجميع أبنائه، ومن حقهم أن يعيشوا بكرامة وعدالة في كل بقعة من أراضيه، من بيروت إلى الناقورة، ومن طرابلس إلى الهرمل. وما لم يتحقق ذلك، فإن الحديث عن وحدة وطنية سيبقى مجرّد شعار فارغ، لا يُقنع جائعاً ولا يُطعم مهمشاً ولا يردّ مظلوماً إلى حقه.



