رأي

عن إستغلال الدين في السياسة : “إسرائيل” نموذجا (زينب إسماعيل)

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز

 

منذ عقود طويلة، تتردّد على مسامعنا عبارة “الله يهدِّك يا إسرائيل”. هذه الجملة، التي نشأ عليها جيل كامل وما زال يردّدها حتى اليوم، ليست مجرد دعاء عابر، بل تكثيف لذهنية جماعية تنظر إلى العالم من خلال إطار ديني يربط الأحداث السياسية والاجتماعية بالإرادة الإلهية. ومن هنا، تصبح العبارة مادة غنية للتحليل الفلسفي–الاجتماعي–السياسي، أكثر مما هي موقف شخصي.

 

إن مثل هذه الجمل تكشف عن هرم من التفكير الجمعي يتأسس منذ الطفولة: الأطفال يسمعونها من الأهل، من المؤسسات التعليمية، ومن الخطاب الديني–السياسي السائد، فتترسّخ لديهم كآلية تفسير للواقع. في هذا التصور، حتى أعقد الصراعات السياسية تختزل في معادلة دينية: “الهداية” أو “العقاب” من الله. وما يلفت النظر أنّ هذا الخطاب استمر لعقود، حتى مع غياب أيّ تغير ملموس في موازين القوى مع إسرائيل.

 

في المقابل، يظهر التباين داخل الإيمان الديني نفسه: فهناك من يفسّر المصائب على أنها غضب إلهي نازل بسبب الذنوب أو الانحرافات، وهناك من يراها ابتلاءً وتجربة، أي امتحانًا لإيمان الفرد والجماعة. هذا التباين ليس تفصيلًا ثانويًا، بل يعكس كيفية إنتاج المعنى في مواجهة الألم والهزيمة. فالتفسير الأول يولّد شعورًا بالذنب الجمعي والاستسلام، بينما يمنح الثاني معنى وجوديًا للصراع ويشجّع على الصبر والمثابرة. لكن ما بين هذين المنظورين، تتسع المساحة أمام أصحاب القرار لاستغلال الخطاب الديني، إذ سرعان ما يتحول من وسيلة تديّن فردي إلى أداة سياسية.

 

في لبنان مثلًا، لم يكن غريبًا أن يُقدَّم الانهيار الاقتصادي على أنه “امتحان للصبر”، في حين أنّ جوهر الأزمة كان نتيجة فساد ممنهج ونهب منظم للمال العام. الخطاب هنا لم يكن بريئًا، بل محاولة لتخدير غضب الناس وتحويل الألم إلى شأن قدري لا سياسي. وفي فلسطين، كثيرًا ما جرى اختزال القضية الوطنية في بعدها الديني، لتُقدَّم كمعركة “إيمانية” لا كتحرر وطني ضد استعمار استيطاني، وهو ما سمح لقوى إقليمية باستخدامها كورقة تفاوض أو ذريعة للتدخل، بينما يعيش الفلسطينيون واقعًا يوميًا من القمع والحرمان. وعلى المستوى الأوسع، طالما رفعت أنظمة عربية شعار “المواجهة مع إسرائيل” كشعار تعبوي، بينما كانت تُنسّق في الكواليس مع القوى الكبرى أو تعقد اتفاقات تحقق مصالحها الخاصة، مستخدمة الدين ستارًا لإخفاء التناقض بين ما يُقال للشعوب وما يُمارَس على الأرض.

 

والمفارقة أنّ إسرائيل نفسها لم تكن بعيدة عن هذا المنطق، فهي أيضًا توظّف الدين لتبرير مشروعها السياسي–الاستيطاني: من مقولة “شعب الله المختار” إلى أسطورة “الأرض الموعودة” وفكرة إعادة بناء “هيكل سليمان”، تتحوّل النصوص الدينية إلى أدوات تمنح شرعية زائفة لاحتلال الأرض وتهجير الشعوب. وهكذا يصبح الدين في خدمة السلطة، سواء كانت عربية أو إسرائيلية، محلية أو استعمارية، إذ يوفّر غطاءً قدسيًا لصراعٍ هو في جوهره سياسي–اقتصادي.

 

فلسفيًا، يمكن القول إن الدعاء واللغة الدينية لا تبقى مجرد آلية رمزية لتحمّل الألم، بل تتحوّل إلى بنية سلطة. فالسلطة تعرف أنّ الإيمان الجماعي يمنحها “غطاءً أخلاقيًا”، وتدرك أن إحالة الأزمات إلى القضاء والقدر تُعفيها من المساءلة وتُعيد توجيه الغضب الشعبي بعيدًا عن جذوره السياسية–الاقتصادية. إنها لعبة إعادة إنتاج الهيمنة: ما يبدو لغة تسليم لله، يتحول في الواقع إلى أداة لحماية مصالح البشر الذين في السلطة.

 

وهنا تكمن خطورة الأمر: حين يُختزل الصراع في الدعاء أو في انتظار “الهداية”، يتحوّل الإيمان إلى سلاح موجَّه ضد الناس أنفسهم، يقيّد وعيهم بدل أن يحرّره. فإسرائيل لم “تُهدَّ” منذ سبعة عقود من الدعاء، والأنظمة لم تتغيّر بمجرد الصبر على “الابتلاءات”، بل استمرّت في استغلال الدين كستار لمصالحها. إنّ قوة الشعوب لا تكمن في العبارات الموروثة، بل في إعادة النظر فيها، وفهم كيف تُستخدم ضدها، وتحويل الوعي من انتظار الخلاص إلى صناعة الخلاص.

 

إنّ الدعاء في جوهره همسٌ داخلي يطلب العدل، لكن حين يُختطف من قبل السلطة يتحوّل إلى جدار صمت يطيل عمر الظلم. وهكذا تصبح كلمات مثل “الله يهدِّك يا إسرائيل” كالأغنية التي تردّدها الأجيال، لا لأنها تُغيّر الواقع، بل لأنها تمنحهم عزاءً مؤقتًا في مواجهة واقعٍ لم يتغيّر. والمفارقة أنّ هذا العزاء الذي يهدّئ الألم هو نفسه ما يسمح باستمراره. لذلك، لا يكفي أن نُردّد ما ورثناه، بل أن نعيد تشكيل لغتنا، أن نجعلها أداة وعي لا أداة غفلة. فالهداية لا تأتي من السماء وحدها، بل من عقول تُدرك حقيقتها، ومن شعوب تقرر أن تتحرّر.

 

وختامًا، إذا أردنا أن يتحرّر الواقع من قيود القدر الموروث، فلا خلاص إلا منّا ولنا، لا بانتظار الهداية، بل بصنعها، بالكلمة الواعية والفعل المسؤول، وبإدراك أن القوة الحقيقية تكمن في وعي الشعوب وقدرتها على إعادة صياغة مصيرها بعيدًا عن أي ستار قدسي يبرّر الظلم.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى