إقتصاد

لبنان والاقتصاد المعلّق على حافة الانهيار(زينب إسماعيل)

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز

منذ سنوات، يعيش اللبنانيون في قلب انهيار اقتصادي غير مسبوق، انهيار تحوّل من أزمة مصرفية عابرة إلى زلزال اجتماعي يفتك بالحياة اليومية. صار الوطن كبيت قديم يتهاوى جدارًا بعد جدار، فيما ساكنوه يحاولون التكيّف مع الشقوق بدل ترميم الأساس.

 

بدأت القصة مع حجز أموال المودعين، حين تحولت المصارف من خزائن للأمان إلى زنزانات بلا مفاتيح. ملايين الدولارات تبخرت أو بقيت حبرًا على دفاتر إلكترونية، فيما المواطن العادي وجد نفسه عاجزًا عن سحب مدخراته البسيطة. لم يكن الأمر مجرد خلل مالي؛ كان خيانة لعقد اجتماعي غير مكتوب، ضربت الثقة بين الناس ومؤسسات الدولة في الصميم.

 

ومع الوقت، صار الدولار سيّد الموقف. كل شيء بات مربوطًا به: الخبز، البنزين، الدواء، الكهرباء، وحتى المزاج العام. ينام اللبناني على سعر صرف ويستيقظ على آخر، كمن يعيش في قارب يتقاذفه الموج بلا بوصلة. ولأن الليرة لم تعد قادرة على الصمود، انزلق البلد عمليًا نحو ما يسميه الناس: “صرنا نعيش بالدولار مش بالليرة… تدولر البلد وضاعت هيبة العملة الوطنية.” وهكذا تحولت الحياة اليومية إلى مشهد كامل يُدار بالدولار، في حين تساقطت آخر أوراق العملة الوطنية ومعها مظاهر السيادة الاقتصادية.

 

وما زاد الطين بلة، أنّ الحرب في صيف العام الماضي وما تبعها من توتر مستمر مع “الحرب المؤجلة” على الحدود، ضاعفت من الأزمة الاقتصادية. فالاقتصاد لا يزدهر في ظل الخوف، والاستثمار يهرب من أصوات المدافع. كل طلقة باتت تسحب من جيب المواطن قبل أن تصيب خصمًا في الميدان.

 

إلى جانب انهيار العملة، يواجه اللبنانيون موجة غلاء غير مسبوقة في أسعار السلع الأساسية. الزيت، الدواء، والمواد الغذائية صارت كحبال مشدودة على رقاب الناس، وكل يوم يحمل أسعارًا جديدة لا يستطيع أحد التنبؤ بها. وفي كل زاوية من السوق، يطرح المواطن نفسه السؤال: هل هو استغلال من التجار الباحثين عن أرباح سريعة؟ أم انعكاس للخوف من حرب مقبلة تهدد الإمدادات؟ أم هو شكل من أشكال الحصار الاقتصادي الخارجي الذي يضغط على لبنان من خلال رفع الأسعار وقطع السلع؟

 من يرى حصة الزيت المخصصة أو سعر ربطة الخبز يدرك أن الأزمة اليومية ليست فقط مالية، بل حرب صغيرة يعيشها كل فرد على حدة، في محاولة البقاء والتأقلم مع فوضى الأسعار.

 

وفي المشهد القضائي نفسه، خرج حاكم مصرف لبنان من السجن بعد دفع كفالته، رغم تثبيت الجرم عليه. كان من المفترض أن يُسجن معه السياسيون المتورطين في القرارات التي أدت إلى تجميد أموال المودعين، لكن الأمر لم يحدث. يطرح هذا السؤال الكبير: هل ثمة صفقة سياسية جديدة تسمح ببقاء النفوذ محفوظًا بينما يظل المواطن المسحوق أمام مصير أمواله المحتجزة؟ هذا الانفصال بين العدالة المعلنة والواقع الشعبي يعكس فجوة الثقة العميقة بين الناس ومؤسسات الدولة.

 

في المقابل، غابت الدولة، أو بالأحرى تواطأت سلطتها مع الانهيار. بدل أن تتحرك بخطط إصلاحية، انشغلت الطبقة السياسية في تقاسم ما تبقّى من الغنائم. تحولت السلطة إلى متفرّج بارد على مأساة الناس، وكأن الجوع ليس شأنًا عامًا بل تفصيلًا خاصًا يخصّ كل فرد على حدة.

 

لكن، وسط هذا الركام، أظهر المجتمع اللبناني وجهه الآخر: وجه الصمود. رأينا مبادرات فردية لإحياء الزراعة في القرى، مبادرات شبابية للتكافل الاجتماعي، مغتربين يرسلون تحويلات مالية لإنعاش عائلاتهم. صار البقاء فعل مقاومة يومية، لا يُدار في غرف السياسة بل في مطابخ الأمهات وحكايات الصبر.

 

ومع كل هذا، يظل السؤال معلّقًا: كيف يمكن بناء اقتصاد على أنقاض الثقة؟ هل تكفي المبادرات الفردية لسد فراغ الدولة؟ أم أن الانهيار سيبقى يتكرّر في دورات لا تنتهي ما دام الفساد بنيةً راسخة في النظام؟

 

لبنان اليوم أشبه براقص على حافة هاوية: يتأرجح، يتعثّر، لكنه لم يسقط بعد. وربما في هذا التوازن الهش يكمن سرّه الأبدي:وطنٌ لا يموت، وإن كان يحيى بألف جرح.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى