وطن ملعب كرة قدم… يلعب فيه وحده!
لديه اربعة اطفال. يكدّ بشرف ليؤمن لهم حياة مقبولة. انشأ ملعبا صغيرا لكرة القدم قرب المنزل بين شجر التين والزيتون. اجذاع الاشجار هي حدود المرمى واشجار السرو تؤلف مجتمعة حدود الملعب. يلعب معهم عند عصر كل يوم وفي ليالي القمر البدر . يصرخ لعلي ليمرر له الكرة ويركل الكرة من بعيد ليوصلها لحسين القريب من مرمى الخصم ويتشاجر مع قاسم إن اوقع اخاه ليفوز بالطابة بالقوة ،ويقبل على مضدد إن نجح عباس بتسديد هدف في مرمى فريقه لانّه لا يقوى على فرح زوجته وافتخارها . هي كابتن فريق اولاده الخصم .
كبر الاولاد وحان وقت الجدّ لبناء المستقبل. غير قادر على كلفة اقساط الجامعات الخاصة ،وغير قادر ان يضمن لاولاده مقعدا في الجامعة اللبنانية التي يتقاسمها ككل وظائف الدولة فعاليات وقيادات وأمراء الأمر الواقع…
التفت لشبابه وطاطأ راسه وقال :
-ابحثوا عن وطنكم الحقيقي في الغربة. سافروا . هاجروا. تسللوا أينما يرزقكم الله.
تمتم اكبرهم:
–لمَ علّمتنا حبّ البلاد وعلّمتنا الاناشيد. طالما الوطن ليس هنا إنّما هناك.
اعتذر من صبيانه . اكدّ لهم انه سيكفر عن ذنبه ببيعه ارض جدّهم الغالية على قلبه ليسهّل امرهم عند شدّ الرحيل.
باع الارض ووضب الجميع حقائبهم الواحد تلو الآخر و هاجروا تسللاً. كل واحد منهم الى زاوية من زوايا العالم الكافر القريب والبعيد.
بقي لوحده في منزله في بلدته القريبة والبعيدة عن قلبه. اتصل عباس من الدنمرك ليسأل عن احوال البلدة فطمأنه ان الجميع بخير، انما رفيقه دهسته السيارة وهو يبيع القهوة اكسبرس عند الرصيف ،وان جاره الطيب لم يستيقظ قبل يومين، فدفنوه حيث اوصى قرب امّه التي ربته واخوته ايتاما صغارا…
حاول عباس ان يخبره عن احواله التعيسة وعن صعوبة الاندماج مع المجتمع الجديد وعن شعوره بالغربة وبالانعزال وعدم تقبل الدنمركيين له. فنهره بقساوة واوصاه بحدة:
-يابني. ما عاد هناك من عروبة لتأسف عليها ،بل شعراء وفرسان و كتاب تاريخ ،فلا تكن وصياً على عروبتك، وما عاد في بلادنا اسلام وقرآنيون بل طوائف وملل وتفاسير، فلا تكن مبشرّاً لان احداً لم يكلفك الدعوة.إنس ما علمتك اياه المدرسة وانس ما اخبرناك اياه. لم يبق هنا من الشرفاء الا قليل من الشبان الحالمين وقليل من المنبوذين بأفكارهم التقدمية .لا شيء يتكاثر غير اللصوص في بلادنا ولا شيء يتكرّر غير المخادعين والمنافقين . اوصاه ان يبقى اينما يجد واينما حلّت الاخلاق .
قام من مكانه وتناول الكرة وبدأ يلعب وينادي اولاده الواحد تلو الآخر في فريقه ليحقق هدفا في مرمى امهم ، زوجته. وصار يتقدم ليتراجع وصار يهجم ليدافع وصار يصرخ ليصيح وصار يتشاجر مع فريقه ليلوم اولاده الواحد تلو الآخر من فريق امهم ،ليهددها ويتوعدها باهداف كثيرة. ثم صار يلعب دور الحكم الذي يفصل في النزاعات الرياضية عند الاختلافات الحبية،وصار يأمر اللاعبين بتقبيل وجنات بعضهم البعض بعد كل مخالفة عنيفة غير مقصودة…
اقترب صديقه اكثر فأكثر من الملعب مندهشاً من صياحه و متخفيا بين السرو والزيتون والتين ليتأكد اكثر مما يراه ومما يسمعه، لتدمع عينه حين شاهد المرارة بعينه وحين لمس الفاجعة بنفسه فجلس يبكي بحرقة بين اشجار السرو …
كان الملعب خاليا من اللاعبين. كان الأب يركل الكرة ثم يجري خلفها ليلتقطها من مرمى الى المرمى الآخر، بينما الهاتف الخلوي للأب اللاعب. الحكم. الحارس المرمى والمدافع .المهاجم والجمهور. يرنّ ويرنّ ويرنّ ويرنّ من اتصال دولي من السويد حيث ابنه علي هناك منذ اكثر من سنتين .
بين السرو وقف و تلا صديقه سورة الفاتحة على الام المتوفاة منذ سنة على اقل تقدير، واستغفر ربّه ولم يزعج صديقه في مباراته وانسحب بلطف وبهدوء وبلا روح رياضية فما عاد في البلدة من ارواح …
ترك الاب ينده اولاده ويعاتبهم ويركل الكرة ويجري خلفها لوحده في ملعب ترابي تقف عند طرفه قطة مستغربة حال الاب تراقبه متمنية ان تلاعبه لتواسيه.
"مولخا".."مولخا"..من سرق بندقيتي ومن نهب الرصاص من جعبتي. من سرق قلمي ومن سرق احلامنا بوطن . من سرق عمرنا وهو يعدنا بغد افضل. طارديهم اينما كانوا. آجرك لله…