لبنان بين الوصايات المتعاقبة وضغط الشارع (زينب اسماعيل)

زينب اسماعيل – الحولرنيوز

منذ نشأته الحديثة، ولبنان يعيش على تخوم الإهانات المباشرة وغير المباشرة. لم ينجح يومًا في أن يكون كيانًا سياديًا كاملًا، رغم ما بذله البعض من محاولات لانتزاع استقلال فعلي. ففي كل مرة حاول أحد أن يحميه، كان يُدفَع نحو محورٍ خارجي يختصر مشروعه، ويقزّم حلمه الوطني في لعبة مصالح أكبر منه.
لم تمرّ على لبنان سلطة أو حكومة حملت على عاتقها فعلًا حماية الكيان. فمن زمن الوصاية السورية، كان الشعب كله معرّض للإهانات، إلى زمن الوصاية الأميركية التي بلغ بها الاستعلاء أن وُصف الصحافيون اللبنانيون بالحيوانات. كأن قدر هذا البلد أن يبقى تحت وصاية ما، وأن تُمارس عليه سلطة أعلى من سلطته، وأكبر من حجمه.
قد يقول البعض إن الإهانة اللفظية عابرة، وإنّ الضجّة التي أثيرت حولها منذ الأمس مجرّد جلبة إعلامية. لكن اللافت، وسط هذا المشهد، أن الضغط الشعبي أجبر المبعوث الأميركي توم براك على إلغاء زيارته إلى الجنوب. هنا تكمن الحقيقة الأهم: ليس في كلمات براك ولا في ردود السياسيين، بل في فعل الشارع الذي فرض معادلة صغيرة ولكن بالغة الدلالة: الضغط الشعبي يمكن أن يُربك حسابات الكبار. وهو وحده، إن نُظِّم وتراكم، قادر على تغيير مسار المفاوضات المقبلة، أو على الأقل وضع حدود لما يُراد للبنان أن يكون عليه.
لكن المشكلة تكمن في أن الاهتمام ينصبّ عادة على ردود الأفعال الآنية، فيما تمرّ بهدوء القرارات التي تُتخذ خلف أبواب المفاوضات المغلقة. تلك القرارات هي ما يحدّد المسار الفعلي للبلد، وما يصوغ واقعه السياسي والاقتصادي والعسكري. أما اللبنانيون، فغالبًا ما يُتركون منشغلين بالتصريحات والشعارات والمهاترات، فيما الخيوط الحقيقية تُحاك في مكان آخر.
اليوم، تحاول الولايات المتحدة أن تفرض نفسها اللاعب الأبرز في الساحة اللبنانية، من دون أن يجرؤ أحد على معارضتها بشكل جدي. المسؤولون بمختلف مواقعهم، يُملى عليهم فينفّذون. أما المقاومة، فمكبّلة بما يتجاوز قدرتها على الفعل المباشر، مكتفية بالبيانات والتصريحات، في حين أن بعض رموزها ما زالوا يصطادون كأهداف إسرائيلية بين الحين والآخر.
في المقابل، يغيب اليسار والقوى الوطنية غيابًا شبه كامل. أنصاره مشرذمون، يتوزّعون بين منصات التواصل ومجموعات متفرقة، يطلقون دعوات للتجمّع لا تتجاوز الحبر الافتراضي. كأن الحركة التي كان يُفترض أن تكون صوت الطبقات الشعبية قد تحولت إلى صدى بعيد لا يسمعه أحد.
أما الشعب، فبقي كما هو منذ عقود: متفرّجًا، مترقّبًا. قسمٌ ينتظر ساعة الحرب وكأنها قدر محتوم سيعيد للبنان شيئًا من كرامته. قسمٌ آخر يعلّق آماله على إعلان سلام يجنّبه أهوال الصراع. وفي الحالتين، لا يبدو أن هناك قرارًا شعبيًا جامعًا يفرض نفسه في وجه الطبقة السياسية أو في وجه القوى الخارجية.
لبنان اليوم ليس أكثر من مسرحٍ صغير تُعرض عليه أدوار الكبار. تتصارع فوقه المشاريع، وتتصادم فيه المصالح، فيما يظل هو عاجزًا عن الإمساك بدوره. لكن ما أثبته مشهد الأمس، ولو بشكل رمزي، أن الضغط الشعبي قادر على إرباك هذا المسرح، وربما على تغيير بعض تفاصيل نصّه. وهذا وحده ما يستحق أن يُبنى عليه.
فلبنان، رغم كل ما مرّ عليه من حروب ووصايات واهانات، ظلّ قائمًا. هذا البلد الذي يشبه شجرة أرزٍ تُقصّفها الرياح لكنها لا تنكسر، لا يزال قادرًا على أن يفاجئ الجميع. قد يبدو اليوم مسرحًا للآخرين، لكن خلف كواليس هذا المسرح شعبٌ يملك نبضًا لم يمت بعد. يكفي أن يقرر أن يرفع صوته، كي يبدّل المشهد.
قد يظن البعض أن الأمل وهم، لكن الأمل في لبنان ليس رفاهية؛ إنه سرّ البقاء. هو الذي جعل الأمهات يزرعن الورد على قبور الشهداء، وهو الذي جعل شبابًا يبتكرون حياة وسط الركام، وهو الذي يحوّل صمت الناس إلى عاصفة حين تحين اللحظة.
لذلك، قد يُكتب على لبنان أن يكون ساحة تجاذب إلى حين، لكن مصيره لن يُرسم إلا بيد أبنائه. والساعة التي يدرك فيها اللبنانيون أن قوتهم في وحدتهم وفي ضغطهم الشعبي المنظّم، ستكون لحظة ولادة جديدة لهذا الوطن. وطنٌ لا يحميه محور ولا يختطفه الخارج، بل يحميه أبناؤه بوعيهم وإرادتهم، وبإيمانٍ أن لبنان، مهما ضعُف، سيبقى أكبر من أن يُمحى.



