رأي

الكوفية: حكاية شعب أبعد من قطعة قماش (زينب إسماعيل)

 

كتبت زينب إسماعيل – الحوارنيوز

“ليست مجرد قطعة قماش، ولا زيًّا عابرًا، بل تاريخ حيّ وشهادة على صمود الشعب الفلسطيني وصرخة الحرية التي تجاوزت الحدود، لتصبح الكوفية رمزًا عالميًا للنضال والكرامة.”

 

الكوفية، أو الحطّة، بدأت كلباس بسيط للفلاحين والبدو في العراق وبلاد الشام، تُستخدم لحماية الرأس والوجه من شمس الصيف الحارقة وبرد الشتاء القارس ومن الغبار على الطرقات. سُمّيت بالكوفية نسبةً إلى مدينة الكوفة في العراق حيث كانت تُنسج وتشتهر، لكنها في فلسطين اكتسبت معنى جديدًا جعلها تتجاوز حدود اللباس التقليدي لتصبح رمزًا للنضال والكرامة. في زمن كانت الأرض فيه المصدر الأساسي للعيش، كان الفلاحون والبدو يزرعونها، ويحرسونها، ويقاتلون من أجل لقمة العيش، والكوفية كانت جزءًا من حياتهم اليومية، غطاءً عمليًا يروي حكاية الطبقة الكادحة ويجمع بين الحاجة والبساطة والهوية.

 

مع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، ارتدى الثوار الكوفية البيضاء والسوداء ليخفوا وجوههم عن أعين قوات الانتداب البريطاني، فصارت علامة تميّز المقاومين. وعندما حاول الاستعمار استخدام هذه العلامة لملاحقة الفدائيين وعزلهم عن بقية الشعب، وقف الفلسطينيون جميعًا خلفهم؛ ارتداها الفلاحون وأهل المدن والشباب والنساء، لتضيع ملامح الثائر بين أبناء شعبه. وهكذا تحولت الكوفية من غطاء رأس للفلاح البسيط إلى هوية وطنية جماعية تحمل معنى التضامن والحماية والالتفاف حول المقاومة. الكوفية، بهذا المعنى، لم تعد مجرد لباس، بل صارت رمزًا للجسد الجماعي الذي يقف في وجه الظلم.

 

النقوش المرسومة على الكوفية تحمل معاني عميقة، فهي ليست مجرد زخرفة عابرة. الشبكة السوداء التي تملأ مساحتها ترمز للبحر والصيادين وتشير إلى شبكة الترابط بين أبناء الأرض. الخطوط الغليظة تمثل الدروب والمسالك، وكأنها طرق الحرية التي يسلكها المقاوم، وعلى أطرافها نجد رسومات سنابل القمح التي تجسد الأرض والخصب وعرق الفلاح الكادح. كل خيط وكل نقش في الكوفية يحكي قصة شعب مرتبط بأرضه، قصة طبقة كادحة تحولت من مجرد حراسة الأرض إلى حماية الهوية ورفع راية الصمود.

 

لم تتوقف رمزية الكوفية عند حدود فلسطين، بل خرجت إلى العالم منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومع صعود حركة التحرر الفلسطينية وصورة ياسر عرفات الذي ارتبط بها عالميًا، صارت الكوفية شعارًا للتضامن مع المظلومين في كل مكان، من أكتاف المتظاهرين في الجامعات الأوروبية، إلى شوارع أمريكا اللاتينية، وعلى صدور الأحرار في أفريقيا وآسيا. لقد تخطّت الكوفية العرق واللغة والدين، لتصبح راية أممية لكل من يؤمن بالحرية والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

 

اليوم، ما تزال الكوفية رمزًا حيًا في الاحتجاجات والتظاهرات، يستخدمها الشباب والفنانون والكتاب للتعبير عن التضامن مع المظلومين في أنحاء العالم. تظهر في الأعمال الفنية والمسرح والموسيقى، لتذكّر الجميع بأن الكرامة والحرية لا يمكن الاستغناء عنهما، وأن تاريخ الكوفية مرتبط دائمًا بصمود الإنسان وصراعه ضد الظلم.

 

ورغم محاولات البعض حصرها في خانة “موضة” أو تحويلها إلى زي عابر في أسواق الاستهلاك، تبقى الكوفية أبعد ما تكون عن الزينة، فهي ليست قماشًا يحمل نقوشًا فحسب، بل تاريخ حي كُتب بدماء الشهداء وعرق الفلاحين وصمود الأجيال. من يضعها على كتفيه عليه أن يدرك أنه يرتدي رمزًا للكرامة الإنسانية، وأن من لا يؤمن بالنضال من أجل الحرية والعدالة لا يستحق أن يحملها، لأنها لم تُخلق لتكون مجرد قطعة قماش، بل لتكون راية للكرامة والصمود، شهادة حية على أن الكرامة لا تُباع ولا تُقايض.

 

اليوم، تختصر الكوفية قصة شعب لم يرضَ بالظلم، وشكّلت لغة مشتركة بين الأحرار في كل مكان. وفيما ما زالت بعض العقول حبيسة التعصب والانغلاق، ترفع الكوفية صوتها لتقول: كرامة الإنسان لا تعرف حدودًا ولا قيودًا. هي إعلان دائم أن الحرية لا وطن لها إلا في قلوب المؤمنين بها، وأن الكوفية ستظل مرفوعة ما دام هناك في هذا العالم مظلوم يطالب بحقّه في حياة كريمة.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى