قانون الانتخابات في لبنان: صناديق مقفلة على الطوائف لا على الوطن والمواطن(زينب إسماعيل)

زينب اسماعيل – الحوارنيوز

منذ ولادة دولة لبنان الكبير في أيلول 1920، بقيت القوانين الانتخابية مرايا مشروخة تتباهى بالديمقراطية، لكنها تعكس وجهًا مقسومًا بين طوائف ومذاهب. ففي ذلك العام أصدر الانتداب الفرنسي مرسومًا لتحديد كيفية انتخاب النواب ودور المجلس النيابي، حيث تم تعيين 18 نائبًا وفق نظام انتخابي أكثري يضمن استمرار النفوذ التقليدي للطوائف والزعيم المحلي، ولم يكن هذا النظام مجرد حماية للطوائف، بل أداة لإرساء طبقة حاكمة تحتكر السلطة والثروة، تتحكم بمصير الناس كما تتحكم بقطع الشطرنج على الرقعة.
مع الاستقلال في 1943، لم يتغير الجوهر، وظلت القوانين الانتخابية تخدم مصالح القوى الطائفية والطبقات الحاكمة، بينما شهدت البلاد انقطاعًا طويلًا في إجراء الانتخابات النيابية خلال الحروب، وأبرزها الحرب الأهلية اللبنانية بين 1975 و1990، التي ألغت الاستحقاقات الدستورية وأضعفت مؤسسات الدولة وأدت إلى تآكل الثقة بين المواطن ودولته، ليصبح النائب أو الوزير حاكمًا على الناس لا موظفًا لديهم، ويدير شؤونهم بعيدًا عن مساءلة حقيقية، فيما ترسخت الطبقات السياسية المهيمنة، فغدت السلطة حكراً على نخبة بعينها تعيش بمعزل عن معاناة المواطنين اليومية، ويظل الشعب في انتظار فرصة ليخرج من عباءة الطائفية والطبقية.
بعد اتفاق الطائف، جرت أول انتخابات نيابية في 1992، لكنها لم تخرج عن إطار المحاصصة، وظلت دوائر النفوذ الطائفي والطبقي متحكمة بالعملية الانتخابية، حتى القانون النسبي المشوه الذي صدر عام 2017 حاول إدخال بعض الإصلاحات، لكنه بقي محدودًا بسبب تقسيمات الدوائر الصغيرة، ولم يمهّد الطريق بالكامل لانتخابات تعكس إرادة الشعب بعيدًا عن الطائفة أو الطبقة الحاكمة، فالمشهد يكرر نفسه دورة بعد دورة، وكأن الزمن محكوم بسلسلة من المرايا المكسورة تعكس نفس الوجوه ونفس المصالح.
ومن التناقضات اللافتة في القانون، أن سن الاقتراع محدد عند 21 سنة، بينما تسري على من بلغ 18 سنة كافة الحقوق القانونية الأخرى، من التملك إلى التقاضي، أي سن الرشد. هذا التفاوت يطرح تساؤلات عميقة عن جدوى تأخير مشاركة الشباب في صنع مستقبل وطنهم، ويزيد من الحاجة إلى قوانين انتخابية تعكس روح المواطنة الحقيقية.
القانون الأنسب حاليًا هو النسبية ضمن لبنان دائرة واحدة، حيث يُنتخب الأشخاص على أساس برامجهم وكفاءاتهم لا طوائفهم، ويصل المناسب إلى منصبه لا المناسب طائفيًا، ويكسر احتكار الطبقة الحاكمة على السلطة، لكن هذه البساطة تُرعب قوى السلطة، لأن تطبيقها سيعيد تشكيل خريطة السياسة اللبنانية ويخرق الحلقة التي احتضنتهم لعقود.
الانتخابات المقبلة مقررة في أيار 2026، في وقت يتسم الوضع السياسي والاقتصادي والأمني بالتوتر، حيث تحاول الحكومة تهيئة الأرضية وسط تحديات ضخمة. المشهد الانتخابي يوصف بأنه مفصلي لإعادة رسم التوازنات، بعد تحولات كبيرة في الساحة السياسية والطائفية، وتجميع القوى التقليدية مستعد لخوض معركة كسر عظم، بينما الأداء في الانتخابات البلدية التي جرت في أيار 2025 يظهر أن الطبقة السياسية الحالية تتمسك بالسلطة رغم الأزمات، فيما القوى الإصلاحية تعاني من تراجع في الزخم الشعبي والتنظيمي، وكأن المشهد كله لوحة مسرحية كبيرة، يُكتب فيها النص مسبقًا، ويظل الجمهور يبحث عن دور له بين صفحات القانون والصناديق.
في ظل هذه المعطيات، قد تشكل الانتخابات فرصة للتغيير، لكنها قد تكون أيضًا مرآة لما بعد الكارثة إذا أصبحت الساحة مقفلة أمام التجديد، فإذا لم يخرج الشعب من قيود الطائفة والطبقة إلى رحاب المواطنة، سيبقى الوطن حبيس صناديق مقفلة، وأملنا معلق بين أصواتنا وأوراقنا، يتوسل أن يرى النور من بين طيات القانون والقوى الحاكمة.
الصندوق الانتخابي ليس مجرد مربع خشبي نستجدي فيه صوتنا، هو قبر للأمل ومقبرة للأحلام المدنية، لكنه قادر أن يتحوّل إلى بستان يزهر فيه وطن جديد إذا كتبنا قانونًا يولد من رحم المواطنة لا الطائفة، وإذا صرنا نحن أصواته وأوراقه، فتتحول المرآة المكسورة إلى نافذة ضوء، تضيء الطريق لكل إنسان يستحق أن يُسمع ويحيا بحرية وكرامة، لتصبح الانتخابات أكثر من واجب دستوري، بل فعلًا حضاريًا يمنح الوطن فرصة ليبدأ من جديد، وكأنها رحلة طويلة نحو فجر يشرق على لبنان، حيث ينهض كل صوت صغير ليكون شعاعًا ينير درب الحرية والكرامة، ويصبح الوطن صفحة جديدة تُكتب فيها أول كلمة بعد عقود من الانتظار والغياب.



