قراءة واقعية في خطورة الانزلاق نحو التقسيم والاقتتال (أسامة مشيمش)

بقلم: د. أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
لم يكن مستغربًا أن تنشأ تباينات داخلية حادة في وجهات النظر حول طبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي، لكن أن تتحول بعض أشكال التعاون أو الصمت أو التبرير إلى خيارات “مباحة” أو حتى “شرعية” باسم البراغماتية السياسية أو الاقتصاد الضروري، فهنا يكمن الخطر الحقيقي.
لقد باتت العمالة للعدو الإسرائيلي، والتي كانت تُعد دومًا خيانة موصوفة في الضمير الوطني، تُطرح اليوم من قبل بعض الأطراف بلبوس جديد، وتُدرج أحيانًا تحت شعارات السيادة، والواقعية السياسية، ومصلحة المواطن، وربما الأمن الاقتصادي. غير أن هذا التحوّل في المفاهيم لا يمرّ دون ثمن.
إن أخطر ما يمكن أن تشهده هذه المرحلة هو انزلاق الخصومة السياسية الداخلية إلى مستوى العداء، وخصوصًا حين تُستثمر مواقف متباينة تجاه العدو الخارجي في صراعات الداخل. فالعدو الإسرائيلي لا يُقاتل فقط بالسلاح، بل يعوّل دائمًا على انقسامات الداخل، واختراق بيئاته، وتفتيت ما تبقى من وحدة الصف أو على الأقل الحد الأدنى من التماسك الاجتماعي والسياسي.
ما يحدث اليوم هو اقترابٌ سريع من حافة انفجار داخلي، لا بفعل خلاف حول السياسات فحسب، بل نتيجة تفكك المفاهيم الوطنية. من يراهن على “التطبيع المبطّن” أو العلاقات الاقتصادية أو الأمنية أو حتى الثقافية مع إسرائيل، يضع البلاد على سكة حرب أهلية جديدة، عنوانها ليس فقط السلاح، بل الشرخ الوجداني بين أبناء الوطن الواحد.
لقد اجتهدت قيادة المقاومة خلال العقود الماضية في تجنيب البلاد الدخول في مواجهة داخلية، مهما اشتدت الضغوط. وقد أثبتت التجربة أن المقاومة لا ترغب في السيطرة ولا تستهدف الشركاء في الوطن، لكنها ترفض في الوقت عينه أن تُفرض عليها مساومات على حساب كرامة الوطن وسيادته ودماء شهدائه.
غير أن ما يجري في الآونة الأخيرة، وخصوصًا مع ارتفاع منسوب الخطاب المهادن أو حتى المرحّب بالتعامل مع العدو الإسرائيلي، يجعل من الاستمرار في سياسة ضبط النفس أمرًا بالغ الصعوبة. حين يتحول التطبيع إلى خيار تتبناه قوى نافذة في الداخل، ويُغلف بعبارات “العقلانية” و”السيادة”، يصبح الصمت على هذا النهج خطيئة، لأن ثمنه سيكون انهيار السلم الأهلي وفتح أبواب التقسيم مجددًا.
لا يمكن الحديث عن تسوية سياسية أو نظام اقتصادي مستقر أو مشاريع إنمائية في ظل بيئة سياسية وأمنية قابلة للاشتعال في أي لحظة. كما لا يمكن الفصل بين السيادة الوطنية وبين الاستقلال الاقتصادي. فمَن يفتح الباب أمام العدو من بوابة المال أو المشاريع الاستثمارية، يبيع القرار الوطني بثمن بخس.
من هنا، فإن المطلوب اليوم ليس الدخول في نزاع مفتوح مع أي طرف داخلي، بل المصارحة الجريئة والوقوف على مفترق طريق. إما أن نعيد ترميم المفاهيم الوطنية من خلال إجماع وطني صريح وواضح على رفض الاحتلال وكل أشكال التطبيع معه، أو أن نستعد لمواجهة نتائج تفكك الدولة، وتكرار سيناريوهات الحرب الأهلية التي جربناها وندمنا عليها جميعًا.
المطلوب اليوم من جميع الأطراف:
- التمييز الحاسم بين الخلاف السياسي والتفريط الوطني.
- التأكيد على أن مقاومة العدو ليست خيارًا فئويًا بل ضرورة وطنية.
- استعادة مفهوم “العدو الإسرائيلي” كمرتكز جامع، لا موضوعًا خلافيًا.
- رفض الاستثمار في الانقسام الداخلي من قبل الخارج، الذي يهدف إلى تحويل بلادنا إلى ساحة بالوكالة.
ختامًا، فإن الرهان على وعي الشعوب يبقى حاضرًا، لكنه لا يعفي النخب السياسية والدينية والاقتصادية من مسؤولياتها. لا تزال الفرصة قائمة لتدارك المسار، لكنها تضيق بسرعة. وفي حال استمرار الانزلاق في هذا المنحدر، فإن العودة إلى التقسيم والاقتتال والتهجير لن تكون مجرد احتمال نظري، بل نتيجة حتمية لسلوك سياسي فقد بوصلة الوطنية.



