بين ثقافة السعادة وثقافة الترف في لبنان: أيهما نعيش؟(أسامة مشيمش)

بقلم د. أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
في زمن الأزمات، تصبح المفاهيم مشوشة، وتختلط المصطلحات في الوعي الجمعي كما تختلط الأولويات في حياة الناس. ومن بين هذه المفاهيم المتداخلة، يبرز الخلط بين “السعادة” و”الترف”، وكأنهما وجهان لعملة واحدة. والحقيقة أن الفرق بينهما، في عمقه، يعكس الفارق بين إنسان يعيش لهدف، وآخر يعيش للهروب من الواقع.
في لبنان اليوم، نعيش في ظل ثقافة الترف المؤقت أكثر مما نعيش في ظل ثقافة السعادة الحقيقية. مظاهر الرفاه العابرة التي نراها في المقاهي، وفي حفلات الزفاف الباذخة، وفي السيارات الفارهة، وحتى في السلوكيات اليومية التي تُغرق في الإنفاق والمظاهر، لا تعكس حالة سعادة جماعية بقدر ما تعكس حالة إنكار جماعية. وكأن المجتمع يحاول أن يغطّي على الجراح العميقة التي خلّفتها الأزمات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، بنوع من “الانفصال النفسي” عن الواقع.
هذا الترف المؤقت، الذي يتمثل في لحظات أكل، شرب، لباس، عمل، أو وسيلة تنقّل، لا يبني وجودًا إنسانيًا متماسكًا، بل يساهم – من حيث لا ندري – في تعميق الشعور بالفراغ، حين يزول الترف ويبقى الواقع على حاله، بل يزداد قسوة. والأسوأ، أن التعلق المفرط بهذه المظاهر يخلق إدمانًا على الاستهلاك، ويحوّل الإنسان إلى عبدٍ للحاجة، لا سيدا لرغباته.
أما السعادة الحقيقية، فهي أمرٌ آخر. إنها لا تُشترى، ولا تُكتسب بمراكمة المقتنيات، بل تُبنى في عمق الذات. ترتبط بشعور دائم بالطمأنينة والمعنى، وتنبع من التوازن بين الداخل والخارج، بين القيم والأفعال، بين ما نريده فعلًا وما نفعله فعلًا. السعادة ليست نتاجًا لحظيًا للمباهج، بل ثمرة لمسارٍ روحي وفكري وأخلاقي طويل، يتطلب شجاعة مواجهة الذات، والصدق مع النفس، والانخراط في مسيرة النموّ الحقيقي.
في لبنان، تحتاج ثقافة السعادة لأن تُبعث من جديد. نحتاج إلى أن نعود إلى الجذور، إلى القيم التي قامت عليها مجتمعاتنا قبل أن تستهلكها العولمة السطحية وثقافة “الإنجاز السريع”. إن الأديان السماوية، والقرآن الكريم بشكل خاص، رسمت خارطة طريق نحو هذه السعادة المتوازنة، حين جمعتها تحت مظلة أسماء الله الحسنى : الغفور، الرحيم، السلام، العزيز، الكريم، المؤمن، المتعالي… فهذه ليست فقط صفات إلهية، بل هي قيم قابلة للتحقق في النفس البشرية.
من يعيش وفق هذه القيم، يستطيع أن يبني سعادته على صخرة صلبة، لا على رمال الترف. هو لا يفرّ من واقعه، بل يسعى لتغييره انطلاقًا من السلام الداخلي الذي يحمله. هو لا يتجاهل آلامه، بل يحولها إلى أدوات للتعلّم والنضج. هذا الإنسان السعيد، الهادئ من الداخل، قد لا يمتلك الكثير، لكنه يمنح الكثير: حبًا، أملًا، صبرًا، ومعنى.
والسؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس فقط: “أيّ ثقافة نعيش؟” بل أيضًا: “أيّ ثقافة نريد أن نورثها لأبنائنا؟” هل نترك لهم صورًا من الترف في أرشيف الهاتف، أم نمنحهم قيمًا تبني حياتهم على أسس متينة؟ هل نعلّمهم كيف يعيشون في عمقهم، أم كيف يتزاحمون على سطح الحياة؟
لعل الجواب يبدأ منا، من قرار بسيط وشجاع: أن نختار السعادة على الترف، المعنى على المظاهر، والقيم على الاستهلاك.



