السياسة الأميركية في المنطقة: بين التفاوض في الخفاء وإشعال الفتن في العلن (وائل أبو الحسن)

وائل فايز ابو الحسن- الحوارنيوز
منذ عقود، تنتهج الولايات المتحدة في مقاربتها للشرق الأوسط معادلة مزدوجة، قوامها شيطنة بعض الأطراف علنًا، والتفاوض معها في الخفاء، إلى جانب توظيف أدوات إقليمية ومحلية لإشغال الشعوب في صراعات داخلية تضمن في المحصلة تفوق إسرائيل وهيمنتها على المنطقة.
منذ اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، حرصت واشنطن على تكريس صورة إيران كعدو أول للعرب، مستثمرة في ترسيخ هذا الخوف، فيما كانت، في المقابل، تفتح قنوات تفاوض مستمرة معها، حتى في أكثر المراحل توترًا، ولا سيما بعد غزو العراق وسقوط نظام الرئيس صدام حسين. وقد ساهم هذا التواطؤ المزدوج في توسع النفوذ الإيراني داخل أكثر من دولة عربية.
ومع انطلاق ما سمي بالربيع العربي، لجأت الولايات المتحدة إلى سياسة الفوضى الخلاّقة. لم تدعم شعوب المنطقة ولا حركاتها الاحتجاجية كما ادعت، بل تركت الساحات مفتوحة لتحول الانتفاضات إلى صراعات مذهبية دموية، أسفرت عن تدمير الحجر والبشر، وانهيار مؤسسات، وسقوط أنظمة، وهو ما صب في نهاية المطاف في مصلحة التوسع الإسرائيلي وتعزيز موقعه كقوة متفوقة.
في هذا الإطار، روجت إدارة بوش الابن لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ثم استكملته إدارة أوباما عبر سياسة خارجية قادتها هيلاري كلينتون، التي عملت على زعزعة استقرار المنطقة، وخصوصًا في مصر، من خلال دعم وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، برعاية قطرية وتركية مكشوفة. غير أن تدخل الجيش المصري في ما بعد، قطع الطريق على هذا المشروع، دون أن يوقف الاستراتيجية الأميركية الأوسع.
رغم هذا الفشل، استمرت واشنطن في الترويج لإيران كخطر إقليمي، في حين كانت تعقد معها تفاهمات وتبرم صفقات في السر، وتغض الطرف عن أدوار أذرعها في كل من لبنان وسوريا واليمن، في الوقت الذي كانت تبرم فيه صفقات تسليح ضخمة مع الدول الخليجية، بلغت مئات المليارات من الدولارات.
إلى أن جاء السابع من تشرين الأول عام ألفين وثلاثة وعشرين، حين وقع ما يعرف ب”طوفان الأقصى”، فقلب المعادلات رأسًا على عقب. وبعيدًا عن الروايات الجاهزة، ثمة مؤشرات كثيرة تدفع للاعتقاد بأن ما حدث لم يكن نتيجة مفاجأة أمنية، بل تغافلًا مقصودًا، وقد تثبت الأيام المقبلة أن ما ظُن مؤامرة ليس إلا سياسة مقصودة الصمت.
رغم هذا الزلزال السياسي، تواصل الإدارة الأميركية الحالية المضي في نهجها التقليدي القائم على ازدواجية المعايير. فهي تضغط لنزع سلاح قوى المقاومة، ولا سيما في لبنان، مع إدراكها لحساسية هذا الملف داخليًا، وفي الوقت ذاته تدعم، بشكل مباشر أو غير مباشر، تنظيمات أصولية وتكفيرية، تمنح خصومها مبررات للبقاء على سلاحهم أو التسلح من جديد.
بل أكثر من ذلك، شطبت واشنطن بعض التنظيمات الجهادية من لوائح الإرهاب، ومنحتها شرعية الأمر الواقع، وفتحت لها أبواب الاعتراف، مقابل التزامات بالتطبيع والانخراط في الاتفاقات الإبراهيمية، والتنازل عن أراض وثروات. أما انتهاكات هذه التنظيمات ضد الأقليات، فقد قابلتها بصمت دولي مريب.
في موازاة ذلك، تواصل الولايات المتحدة مفاوضاتها مع طهران، وتقدم لها التطمينات المتكررة بما يخص أذرعها وأدواتها الإقليمية، لتستمر بذلك في سياسة مع الجميع وضد الجميع، سعيًا لإشعال الفتن، وتأجيج النعرات، وترسيخ الهيمنة الإسرائيلية بوصفها القوة الوحيدة القادرة على ضبط المنطقة.
هذا هو جوهر اللعبة. قلة قليلة من الفاعلين المحليين فهموا المشهد بكامله، وعلى رأسهم وليد جنبلاط والرئيس نبيه بري، اللذان قرءا الأحداث بعين سياسية ثاقبة. أما الآخرون، مع الاحترام، فما زالوا يراهنون على قراءات خاطئة، تنطلق من حسابات ضيقة لا تتعدى أحيانًا حدود الجغرافيا المناطقية، وهو أمر يبعث على القلق.
والمؤسف في الأمر، أن بعض هؤلاء كرروا الرهان على الأمريكي والإسرائيلي مرارًا، وخُذلوا في كل مرة، ودفعوا أثمانًا باهظة من السجن، إلى النفي، إلى القهر، إلى التهجير، ولا يزال الرهان قائمًا، وكأن شيئًا لم يكن.
*محام مغترب مقيم في المكسيك



