سَلِيم حَيْدَر..الإنسانُ في الشَّاعِر
بقلم الدكتور وجيه فانوس*
لَمْ ألتقِ الشَّاعرِ سَلِيم حَيْدَر ولو لمرَّةٍ واحدةٍ في حياتي؛ بَيْدَ أَنِّي لَمْ أَعْرِفْ عنهُ سوى ذِكْرَهُ العَطِر في مجالِسَ ثقافيَّةٍ واجتماعيَّةٍ ووطنيَّةٍ طالما ارْتَدْتُها. ولِذا، فإنِّي سعيتُ إلى أنْ أقرأُ في إنسانيَّتِهِ؛ بما تقومُ عليهِ، هذه الإنسانيَّة، من فِكْرٍ واعتِقادٍ وإحساسٍ، وذلك عَبْرَ ما تعرَّفتُ عليه من نِتاجِهِ الشِّعريِّ فقط. فالنَّصُّ الأدبيُّ، في عُرْفي، كما في عُرفِ كثيرٍ من المعاصرين في مجال دراسات النَّقد الأدبيِّ، قادرٌ، إذا ما اُحْسِنَ تحليلُه، على تقديمِ صورةٍ جَلِيَّةٍ عن واضِعِه.
رَجِعْتُ، في قراءاتي، للإنسانِ في الشَّاعر “سَلِيم حَيْدَر”، إلى مجموعاته الشِّعريَّة؛ وكان أن استخرجتُ منها خمسة عنواناتٍ أساسٍ، رأيتُ فيها أُسَّ ما يُمكنُ أن يُشَكِّلَ صورةً عن إِنْسانِه. تجمَّعتْ هذه الجذورُ في باقةٍ يَتَضًوَّعُ مِنها عَبَقُ “سَلِيم حَيْدَر” “المُفَكِّرُ” و”الوَطَنيُّ” و”الحَضارِيُّ” و”المُؤمِنُ” و”العَاشق”. ووجدتُ أنَّ الأمرَ أنْ يُعملَ عليهِ، في سَعةٍ من الشَّرح وعمقٍ في التَّحليلِ وتبصُّرٍ في الاستِنْتاج، في سِفرٍ جليلٍ يُخَصَّصُ لهذا الشَّأنِ ويسمو إلى روعةِ مقاصِدِه. ولذا، ارتأيتُ أن أقْصٌرَ مقالي، في هذا المقام، على بعضِ جزئيَّاتٍ من أنموذجين من إنسانيَّةِ “سَلِيم حَيْدَر” المتجلِّيَةِ فيِ شعره؛ وهما أنموذج ““سَلِيم حَيْدَر” المُفَكِّر” وأنموذج ““سَلِيم حَيْدَر” العاشِق”؛ آملاً أن أتمكَّن عبر عرضٍ، ولو مبتسرٍ، لهذه الجزئيَّاتِ من أن أستكشف بعضَ ما في مدى تكامل إنسانيَّة حيدر في ما بينِها أو تعارضِها مع ذاتِها.
أَحْصُرُ، في هذا المقالِ، مجالاتِ الفِكْرِ عند حَيْدَر، بما يراهُ في “الشِّعرِ” و”الإيمان” و”الحُبِّ”؛ ثالوثاً أبديَّاً سرمَدِيَّاً قامت عليهِ البنايةُ الإنسانيَّةُ للشِّعرِ وعَمَرَت بوجودهِ ومنه توسَّعت حتَّى استوعبت كلَّ ما في وجودِها من رِحابٍ وطاقاتٍ.
يتابعُ حيدر، في نظرتهِ إلى الشِّعر التَّقليد العربيَّ المُتَوارثَ في هذا الموضوع، والمتمثِّلِ في الاعتقادِ بأنَّ الشِّعرَ أوزانٌ وإلهامٌ وجِرْسٌ وقوافٍ؛ ولعلَّهُ لا يحيد فيه، لا مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ، عن هذا المتوارَثِ.
أُحِسُّهُ شِعراً وأَغفو على الـ
أوزانِ واإلهامُ يغفو مَعي
والجِرْسُ يحدو والقوافي لها
ترنيمةٌ هوجاءَ في مَسْمَعي
قصيدة “خاطر”، ديوان “آفاق”، (ص. 10)
ويميِّزُ حيدر، في شِعرهِ، بين ما يُسمِّيه “خاطراً”، ويعني بهِ الرُّؤيا الشِّعريَّة، وليدةَ الحَدْسِ والشُّعور والانفِعالِ الحيِّ الخلاَّق؛ وبين ما يسمِّيهِ “فِكراً”، ويعني بهِ ما يكونُ نتيجةَ إِعمالِ العقلِ والمنطِقِ الاحتسابيِّ. ويؤكِّدُ حيدر انحيازه القَطعي إلى “الخاطِرِ” على حساب الفِكْرِ؛ وكأنَّي بحيدر يَشْهَدُ لِما يمكن تسميتُه بالبُعدِ العاطفيِّ أو “الرُّومنطيقيِّ” في مَيلِهِ الشِّعري.
يا خاطِراً يَمُرُّ بي لا يَعي
ويَتْرُكُ المأساةَ في أَضلُعي
سَأَلْتُ عَنْكَ الفِكرَ في عُقْمِه
وأَنْتَ في قلبي وفي مَدْمَعي
قصيدة “خاطر”، ديوان “آفاق”، (ص. 7)
يبرزُ، ضمن هذا المنحى، تكاملٌ طيِّبٌ في مجالاتِ الفِكرِ الشِّعريِّ عند “سَلِيم حَيْدَر”، إذ يرى أنَّ “الرُّؤى” مصدرُ الإبداعِ في الشِّعرِ؛ فيؤكِّدُ، بذا، أنَّ حقيقةَ الشِّعرِ تكون في اعتقادهِ عبرَ الانفعال والتَّفاعلً الرؤيويين، وليست في مجالات المنطِق الاحتسابيِّ الذي لاينتجُ عنه سوى النَّثر والواقعيَّة الجامِدَة.
ولِلْيَراعِ العَضبِ وثْباتُهُ
لكِنَّ وَجْهَ الوحيِ لَمْ يطْلَعِ
فكلُّ شيء بانتِظارِ الرُّؤى
وبانتِظارِ القَبَسِ الألمَعي
قصيدة “خاطر”، ديوان “آفاق”، (ص. 9)
ويشرحُ حيدر وعيَهُ الشِّعريَّ لهذه المقولةِ، إذ يُصَرِّحُ أنَّ الرُّؤى الشِّعريَّة هي التي تأخذُ محلَّ اليقين؛ فالرُّؤى، عنده، هي الحقيقةُ الجوهريَّةُ ولا حقيقةَ سواها في اكتناهِ أسرارِ الوجود. وهكذا يُظْهِرُ حيدر العُمْقَ العاطفيَّ أو الرُّومنطيقيَّ في تكوُّنِ فِكْرِهِ الشِّعريِّ.
يا ليل، آلاف الظُّنونِ
فكَّت عُرى السِّرِّ المصونِ
فتدافَعَتْ عفو الحبيب
هواجِسٌ مِثلَ الجنونِ
تَتَمَثَّلُ الأشباحَ شَكَّاً
عِنْدَ إِعْراضِ اليقينِ
قصيدة “يا ليل”، ديوان “آفاق”، (ص. 29)
يدخلُ “حيدر”، من هذا الباب الرُّؤيوي للشِعرِ، إلى رحاب موضوعات الإيمانِ وقضاياه؛ إنَّها تلك الرِّحابُ التي طالما شَغَلَت الشُّعراءَ وأهلَ الفلسفةِ وسائرِ النَّاس، في فِكَرٍ وآراءٍ واجتهاداتٍ تَشْهَدُ على صِراعِيَّةٍ أزليَّةٍ في ما بينها. وحيدر في إيمانِهِ، عَبْرَ فِكْرِهِ الشِّعريِّ، مُتكامِلٌ إلى أقصى حَدٍّ مع فَهمِهِ للشِّعرِ؛ إِذْ يَرى أَنَّ الإيمانَ، في جوهرِ وجودهِ، فاعليَّةُ رؤيا شِعرِيَّةٍ وليس نتيجةَ تأثيرِ منطقٍ عقليٍّ أو احتسابيٍّ.
يبدأ الأمرُ، عند حيدر، عبرَ صراعيَّةٍ بين العقلِ والقلبِ:
ويَجْهَلُ عقلي معالِمَ قَلْبي
ويَجْهَلُ قلبي مَجالي الفِكَرْ
سجينُ الزَّمانِ سجين المكانِ
طليقُ الأماني عقيلُ الذِّكَرْ
قصيدة “لماذا”، ديوان “آفاق”، (ص. 65)
يُعايشُ حيدر هذه الصِّراعيَّةَ بما فيها من مُعايناتٍ ومُعاناةٍ، ليصلَ من كلِّ هذا إلى رأيٍ نهائي فيها، ويأتي رأيُهُ هذا متوافقاً مع طبيعةِ إيمانهِ العميقِ بالشِّعرِ وحقيقةِ كَوْنِهِ هو شاعراً:
وأنا وَحدي أَنا الجاني عَلَيَّ
إذ جَعَلْتُ العَقْلَ سُلْطاناً لَدَيَّ
فَأَذَلَّ الرُّوحَ وارتَدَّ إليَّ
ديوان “أشواق”، قصيدة “أُنْشودة الماضي”، (ص. 23)
يَحْسُمُ حيدر هذه الصِّراعيَّةِ، في فِكْرهِ الشِّعريِّ، بِرَفْضِهِ ما يُقدِّمُه المنطِقُ الاحتسابيُّ للظَّاهرِ؛ إذْ أَنَّ ما يُقدِّمُهُ هذا المنطقُ لا يعدو، عند حيدر، مجرَّدَ بهرجةِ صُوَرٍ لا يطمِئنَّ إليها؛ ويؤكِّدُ انحيازَهُ لِما توفِّرُه لهُ رؤاهُ المُنْبَثِقَةُ من شِغافِ قلبِهِ ومشاعره.
نَظَرتُ إِلَيْكَ بِعَيْنِ الخَيال
فَتاهَ على قَدَمَيْكَ النَّظَرْ
وسرَّحتُ طَرْفيَ بِهذا الوجودِ
فَلَمْ أرَ للدِّينِ إلاَّ صُوَرْ
وفَكَّرتُ في ما وراءِ الوجود
فآمَنَ قلبي وعَقْلي كَفَرْ
قصيدة “لماذا”، ديوان “آفاق”، (ص. 62)
وهنا، يتجلَّى الشَّاعرُ، في حيدر، بعَظَمَةِ شاعريَّتهِ القائمةِ على الانسجامِ التَّام مع الرُّؤيا الشِّعريَّةِ، أمام اندحارٍ مُطْلَقٍ يراهُ الشَّاعرُ لِعقلانيَّةِ الرُّؤيَةِ الفلسفيَّةِ وما فيها من مَنْطِقٍ احتسابيٍّ غيرِ شعوريٍّ وغيرِ انفعاليٍّ.
وقبلي كَمْ مِنْ دِماغٍ تَمَطَّى
على الغَوْرِ كيما يُقالُ سَبَرْ
فنامَ على ظُلْمَةِ المُسْتَحيل
تُهَدْهِدُهُ ذِكرياتُ السَّمَرْ
هوَ السِّرُّ يَخْفى على الفيلسوف
ويظْهَرُ طَوْعاً لِقَلبٍ شَعَرْ
ولِلغيبِ في ما خَلَقْتَ شُؤونٌ
ولِلنَّاسِ في ما خَلَقْتَ عِبَرْ
قصيدة “لماذا”، ديوان “آفاق”، (ص. 74)
ورغم هذا الوَعيِ العميقِ بحتميَّةِ الرُّؤيا الشِّعريَّةِ في موضوعاتِ الإيمانِ، فإنَّ حيدر لا يَصِلِ إلاَّ إلى قَدَرِيَّةٍ فِكرِيَّةٍ وجدانيَّةٍ تُبقيهِ، بطبيعةِ إدراكِهِ لها، في عالَمٍ الشِّعريِّ فلا ترحلً بهِ، أبداً، إلى دنيا التَّحكُمِ بالواقعِ؛ إذ التَّحكُمُ، في هذه الرِّحابِ، فعلُ احتسابٍ مَنْطِقِيٍّ وليسَ فاعليَّةَ عيشٍ محكومٍ بشعوريَّةِ الرُّؤيا أو شِعْرِيَّتِها.
نَمشي ولا يَعْلَمُ عُلاَّمُنا
حتَّامَ نَمْشي أو متى نقعدُ
نَمْشي ويبقى في ضميرِ المَدى
ما يَمَّحي مِنَّا وما يَخْلُدُ
مِن غامِضٍ نَسْعى إِلى غامِضٍ
فَنَحنُ ندنو والمَدى يَبْعُدُ
ورُبَّما عُدْنا إِلى بَدْئِنا
نَسيرُ ما سِرْنا ولا نَقْصُدُ
كالكَوْنِ هذا الفِكْرُ يَجري على
دائِرَةٌ لَيْسَ لها مَنْفَذُ
…..
قصيدة “سراب”، ديوان “آفاق”(صص. 82،84)
يجِدُ حيدر أنَّ ثمَّة جذوةً من لهب الحقيقةِ تكمُنُ في أعماق ذاته؛ ويرى أيضاً أنَّ لهذهِ الجذوةِ قدرةً على إخراجِهِ من لُجُبِ الأعماقِ المُظْلِمَةِ لمعضلةِ عيشهِ في دياجير عدمِ اليقين.
أَشْرقي في ليلِ نَفْسي
بَدِّدي مِنها الظَّلاما
جذوةً تَحْتَ رَمادِ اليأسِ
تَشْتاقُ الضِّراما
قصيدة “تفاعل النَّظرات”، “ديوان “أشواق”، (ص. 25)
يواجه حيدر، في هذا المجال، قضيَّة البَوحِ”؛ وهي واحدةٌ من أشَدِّ القضايا التي شَغَلَتْ الشِّعْرَ بِشَكْلٍ خاصَّ، والأدب بشكل عام. إذ كيف للشَّاعر أن يجعلَ من تعبيرهِ مدخلاً إلى بيان ما يعيشه أو يعيش فيه من رؤىً.
تَوَدُّ القلوبُ لَوْ أَنَّ العيونْ
تَشِفُّ عن الحرقةِ الجائرَةْ
ولكنَّ ما في القلوبِ دَفينْ
وتَبْقى العيونُ بِهِ حائرةْ
قصيدة “رضيت”، ديوان “أشواق”، (ص. 27)
قولي اُحِبُّكَ لا تَمَلِّي
فالصَّمْتُ عُنوانُ التَّخَلِّي
قَدْ قُلْتِها وأَعَدْتِها
لَكِنَّها لَمْ تَشْفِ غُلِّي
لي في سَماعِكِ نَشْوَةٌ
الصُّوفيِّ في غَمْرِ التَّجَلِّي
ولِكُلِّ بَوْحٍ لَذَّةٌ
بِكْرٌ كَفَجْرٍ مُسْتَهِلِّ
قصيدة “لَذَّة البَوْح”، ديوان “أشواق”، (ص. 31)
يرى “حيدر” في العِشْقِ فِعْلَ بَوْحٌ إنسانيٍّ منيرٍ ومجالَ وصْلٍ صوفيٍّ يُنقِذُ المرء من عتمة حيرته ودياجير حيرتِها. إنَّ نيران الحبِّ تضحي عند “سَلِيم حَيْدَر”، ضمن هذا السيَّاقِ دَفْقُ إشْراقٍ يعصُفُ بالظَّلام الذي يسربِلُ وجودَ الإنسان. وبذا يؤكِّدُ “سَلِيم حَيْدَر” طبيعةَ تماسكِ فكره الشِّعري، وكيفيَّة استغراق هذا الفكر الشِّعريِّ لعيش حيدرَ في عالم العالمِ الشِّعريِّ الذي آمَن بهِ.
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي