حدود العقل التوّاق إلى الحرية في مواجهة واقع الاستبداد( اسامة مشيمش)

بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الارنيوز
ثمة فجوة شاسعة تفصل بين تطلعات الإنسان نحو الحرية والرفاه، وبين واقع تحكمه قبضة الاستبداد، وتغذّيه أمراض النفس البشرية كالخوف، والجشع، والتسلّط. فالعقل الإنساني، بطبيعته، يميل إلى التحرر والإبداع، ويبحث عن حياة كريمة تسودها الكرامة والعدالة. غير أن الواقع في كثير من المجتمعات يفرض قيودًا قسرية تكبح هذا العقل، وتحاصره بأنظمة تُؤْثِر السيطرة على التمكين، وتُبقي الأفراد في حالة خضوع ممنهج.
الاستبداد لا يولد فقط من رحم الأنظمة السياسية، بل يُغذّى أيضًا بعوامل نفسية واجتماعية تتجذر في تربية الأجيال، وتعيد تشكيل منظومة القيم لتُصبح الطاعة العمياء فضيلة، والمطالبة بالحقوق جريمة. فحين يتربى الطفل على الخوف من السؤال، وينشأ الشاب على ضرورة إرضاء “السلطة” كي ينجو، يصبح العقل الجماعي مهيأً لقبول الطغيان، ولو بدا قاسيًا أو ظالمًا.
وفي ظل هذا الواقع، تُختزل الحرية في شعارات، وتُصادر الرفاهية بحجة الأمن، ويُروّج لفكرة أن النظام، أيًّا كان شكله، أهم من كرامة الإنسان. بينما الحقيقة أن الرفاه لا يتحقق في بيئة مقموعة، وأن الحرية ليست عدوة النظام بل ضمانة استقراره.
الإنسان في عمقه الوجودي لا يرضى بالعبودية، حتى وإن تكيف معها ظاهريًا. إنه عقل توّاق إلى المعنى، إلى العدالة، إلى صوت يُشبهه. قد يُرهَق ويصمت حينًا، لكنه لا ينسى. وكل تجارب التاريخ تقول إن القهر لا يدوم، وإن الكرامة المهدورة تنتقم في النهاية، ولو بعد حين.
إن التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في مواجهة الاستبداد السياسي، بل في تفكيك بنيته الثقافية والنفسية، تلك التي تُغلف القمع بمفاهيم “الاستقرار”، و”الهيبة”، و”الخصوصية”. لا يمكن أن تُبنى مجتمعات حديثة على الخوف، ولا يمكن أن تُطلق طاقات الإبداع في ظل التهديد المستمر.
ما نحتاج إليه هو ثورة وعي، تبدأ من المدرسة ولا تنتهي عند حدود الدولة. وعي يُعيد الاعتبار للإنسان، لا بوصفه أداة إنتاج أو رقمًا في سجل، بل ذاتًا حرة تستحق أن تفكر، أن تختار، أن تختلف.
فالعقل الحر لا يُروَّض، وإن طال زمن القيد. وإن كل جدار يُشيَّد على الخوف، مصيره أن يسقط، لأن الإنسان في جوهره لا يُقهر.



