مكافحة الفساد في لبنان: هل تبدأ الإرادة السياسية أخيرًا بالتحقق؟ (سعيد عيسى)

الدكتور سعيد عيسى – الحوار نيوز
في بلد يعيش على وقع الأزمات المتتالية، وتتآكل فيه ثقة المواطن يومًا بعد يوم بفعل الفساد المستشري، يبرز أي تحرك لمكافحة هذه الآفة كبارقة أمل، وإن كانت خافتة. إعلان انطلاق أعمال اللجنة الفنية المعاونة للجنة الوزارية لمكافحة الفساد في الأول من تموز 2025، برئاسة وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية الدكتور فادي مكي، يطرح تساؤلاً جوهريًا: هل نصل أخيرًا إلى نقطة تحوّل، أم أننا أمام حلقة جديدة في مسلسل طويل من المبادرات الشكلية؟
وعود متكررة وتحديات متجذرة
لا شك أن تشكيلة اللجنة الحالية، التي تضم ممثلين عن وزارات وجهات قضائية ورقابية ومصرفية، بالإضافة إلى دعم دولي من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوروبي والوكالة الدنماركية للتنمية الدولية، تعطي انطباعًا بالشمولية والجدية. كما أن تركيز الاجتماع على مراجعة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد (2020-2025) وسبل تسريع وتيرة العمل، يتماشى مع أفضل الممارسات في الحوكمة. التوصيات الصادرة عن اللجنة، بتطوير آليات التنسيق، وربط الجهود بالتحول الرقمي، وتعزيز الشراكات مع المجتمع المدني والقطاع الخاص، وحتى إشراك الشباب والنساء وذوي الإعاقة، كلها نقاط إيجابية على الورق.
لكن الخبرة اللبنانية علّمتنا أن المشكلة ليست في غياب الخطط أو التوصيات، بل في الإرادة السياسية الحقيقية لتنفيذها. فكم من استراتيجية وضعت، وكم من لجنة تشكلت، دون أن تترجم إلى خطوات عملية تُحدث فرقًا ملموسًا في حياة المواطنين؟ الفساد في لبنان ليس مجرد ممارسات فردية، بل هو منظومة متكاملة تضرب جذورها في عمق النظام السياسي والاقتصادي. والحديث عن “تسريع الوتيرة” بينما عقارب الساعة تدق نحو استنزاف كامل لمقدرات الوطن، يبدو أحيانًا كسباق مع الزمن لا يمتلك فيه الفاسدون أي نية للخسارة.
الإرادة السياسية: مفتاح الإصلاح الضائع
الوزير مكي لم يخطئ في تشديده على أن “الاكتفاء بوتيرة العمل السابقة… ستكون كلفته باهظة على الاقتصاد والتنمية واستعادة الثقة بلبنان”. هذا الإقرار بخطورة الوضع يستحق الثناء، فهو يعكس وعيًا بأن لبنان لم يعد يمتلك رفاهية الوقت. ولكن الأهم والأكثر إلحاحًا، هو قوله إن “الالتزام السياسي بتفعيل الاستراتيجية كمدخل أساسي للإصلاح… هو الركيزة لأي مشروع إصلاحي جدي”.
هنا تكمن العقدة. فالالتزام السياسي في لبنان غالبًا ما يكون قُصاصة ورق في مهب الريح. هل يمكن للجنة أن تنجح في ظل قضاء مكبّل، وإدارة عامة ضعيفة، ومنظومة سياسية تقوم على المحاصصة والزبائنية؟ هل يمكن لمكافحة الفساد أن تتقدم إذا كان كبار الفاسدين يتمتعون بحصانات سياسية وطائفية تحميهم من المساءلة؟ استعادة الثقة، كما أكد الوزير، تتطلب “إجراءات ملموسة، تنسيقًا فعالًا، وتعاونًا حقيقيًا بين جميع الشركاء”. وهذه الإجراءات يجب أن تبدأ من القمة، لا أن تقتصر على “صغار الفاسدين” أو قضايا الفساد التي لا تمس مصالح النافذين.
ما بعد الخطابات: فعل أم رد فعل؟
إن ما نراه اليوم قد يكون رد فعل على ضغوط داخلية وخارجية، أكثر منه فعلاً نابعًا من إرادة إصلاحية ذاتية. فالمنح والبرامج الدولية، ومطالب المانحين، كلها تضع مكافحة الفساد كشرط أساسي لأي دعم أو إنقاذ. السؤال هو: هل سيترجم هذا الضغط إلى تحولات جوهرية، أم سيبقى مجرد تحسينات شكلية لتلبية الشروط دون المساس بجوهر المشكلة؟
المواطن اللبناني، الذي دفع ولا يزال يدفع ثمن الفساد المستشري من قوته وكرامته ومستقبله، لم يعد يصدّق الوعود. هو ينتظر أفعالًا. ينتظر محاسبة حقيقية، واستردادًا للأموال المنهوبة، وإصلاحًا مؤسسيًا يضمن عدم تكرار ما حدث. إن سلسلة اللقاءات المرتقبة لتأمين مشاركة أوسع وبلورة إجراءات تنفيذية جديدة يجب أن تكون شفافة ومفتوحة للمراقبة الشعبية والإعلامية.
في الختام، إنها فرصة جديدة للبنان ليثبت أنه قادر على النهوض من تحت ركام الفساد. ولكن هذه الفرصة، كغيرها، ستبقى معلقة على حبل الإرادة السياسية. فإذا لم تتحقق هذه الإرادة على أعلى المستويات، ولم تُترجم إلى خطوات شجاعة ومحاسبة صارمة، فإن هذا الاجتماع، وكل الجهود المبذولة، ستبقى مجرد إضافات إلى أرشيف مبادرات لم تفلح في تغيير واقع الفساد في لبنان. فهل تبدأ الإرادة السياسية أخيرًا بالتحقق؟ الأمل معقود على ذلك، ولكن الحذر يبقى سيد الموقف.



