أزمة القطاع العام : إهمال مزمن يدخل الإدارة في مدار الإصلاح المستحيل( غسان بيضون)
كفاءات تخرج لضآلة الرواتب ومحسوبيات تدخل بتعويضات مثيرة للتساؤل!

كتب غسان بيضون* – الحوارنيوز

تشكّل الإدارة العامة بمختلف أسلاكها الأداة التنفيذية للحكومة في إدارة وتسيير المرافق والمصالح العامة، وإن كانت فترة ما بعد الطائف قد شهدت تهميشاً لهذه الإدارة وهيمنة فاضحة لـ”فريق الوزير” على حسابها، حيث هناك أطماع في الانتفاع من التلزيمات الدسمة المصممة على القياس في القطاعات والمرافق الخدماتية. وقد أدى الانهيار إلى تراجع قيمة الليرة، ومعها تدني رواتب القطاع إلى حد غير مسبوق. وكان ذلك نتيجة طبيعية لنهج خاطىء في تعامل الحكومات المتعاقبة مع القطاع العام وإهماله المزمن، فأدخل الإدارة العامة في مدار الإصلاح المستحيل. وقد جاءت الحملة القضائية على موظفي هيئة إدارة السير وأمانات السجل العقاري في مختلف المناطق، خلال فترة ما بعد الانهيار، لتضاف إلى أسباب تزايد الشغور الوظيفي والنقص في أعداد العاملين في مختلف الأسلاك، الذي انعكس شللاً على مستوى مالية الدولة وخزينتها، وشعوراً بعدائية الدولة تجاه الأبرياء منهم، فبدا وكأن هناك من يتعمّد تعميق الأزمة وإطالتها بالإصرار على الحؤول دون استئناف دورة العمل المنتج للمال، ودون تغذية الخزينة.
في غمرة هذه التطورات وبرغم انعكاساتها السلبية على واقع الإدارة العامة، تفاجئك برودة الحكومات وردود فعلها تجاه أداء القطاع العام، برغم الشغور الكبير في مواقع وظائفه القيادية، وشبه الشلل المترتب عنه على مستوى إنتاجية وكفاءة وفعالية الإدارات والمؤسسات العامة، لا سيما على مستوى إعاقة تدفق السيولة إلى الخزينة ورفدها بأهم الإيرادات الضريبية العقارية والجمركية ورسوم السير وتوابعها. وهي عوائق لا يمكن لوزير المال وحده معالجتها، وإنما تقتضى خطةً وجهوداً حكومية طارئة ومستعجلة تتركز على معالجة آثار تدخل القضاء الذي لم يصل إلى حد الإدانة وإنما أفضى في معظم الحالات إلى إخلاء سبيل من لم يثبت وجود جرم بحقهم. وبرغم ذلك التصقت بسمعة الأبرياء من هؤلاء شبهات أرخت بظلالها السلبية على إمكانية إعادتهم إلى مواقعهم الوظيفية، بحيث أضيف إلى علة الفساد تعميق أزمة الشغور والنقص في أعداد الموظفين على مختلف الأسلاك والمواقع.
وكان بالنتيجة أن برزت ظاهرة هجرة أصحاب الكفاءات والمتميزين من الإدارة العامة، وهم كثر، للالتحاق بمؤسسات دولية مالية وجامعية وخدماتية رسمية مرموقة، سعياً للرزق وتأمين مستقبل آمن لعائلاتهم، وأدى ذلك إلى تعميق أزمة الشغور في القطاع العام، وتغليب هاجس الارتزاق على التزام موظف القطاع العام بموجباته الوظيفية ببعديها القانوني والأخلاقي، وكان من الطبيعي توقّع تراجع الرادع الأخلاقي أمام حدّة الأزمة المعيشية وإلحاح الحاجة لتأمين مستلزمات عيش الموظف وحقه بحياة كريمة، تمكّنه من تغطية تكاليف تعليم أولاده وتامين الرعاية الصحية له ولعائلته، التي ارتفعت بشكل حاد، واستوجبت تأمينها بالدولار “الفريش” على سعر السوق، الذي تضاعف ستين مرة، فيما ارتفعت رواتب الموظفين مع ما استحدث على هامشها من تعويضات مثابرة وحضور وإنتاجية و”صفائح بنزين” بحدود ظلت بعيدة بفوارق ملحوظة وكبيرة عن نسبة ارتفاع سعر صرف الدولار، وما زال هذا العجز يتفاقم وظاهرة النزوح الوظيفي تتعزز.
دورة مطالب القطاعات الوظيفية بتحسين الرواتب تنطلق:
لم يكن إقرار مساعدة إضافية للعسكريين في الخدمة وللمتقاعدين منهم دون المدنيين، “الدعسة الناقصة” الوحيدة للحكومة الحالية، ولا لسابقتها، في مسار معالجة أزمة القطاع العام ومتقاعديه بمختلف أسلاكها الإدارية المدنية والعسكرية والقضائية والتربوية التعليمية الرسمية والجامعية، ولن تكون الخطوة الأخيرة في إقرار رواتب سخية للهيئات الناظمة وبعض مجالس الإدارة، في ظل حكومات لا تتحرك إلا تحت تأثير الصدمة والتهديد بأزمة وقف المرفق العام، يعود مسلسل مطالب القضاة وأساتذة الجامعة اللبنانية وغيرهم من باقي القطاعات، للانطلاق مجدداً، بحيث لو استمرّت معالجة أزمة القطاع العام على حالها بالمفرّق، تحت ضغط التظاهرات والتجمعات والبيانات والوقفات الرمزية، فإن الأزمة سوف تتفاقم، وسوف نكون على شفير أزمة انهيار جديد للقطاع العام وتداعيات مالية خطيرة على مستوى الاقتصاد.
إن النظر بموضوعية إلى أزمة القطاع العام وسبل معالجتها اليوم، لا بد أن تنطلق من واقع صدور موازنة العام ٢٠٢٥، وسابقاتها، مشبعةً بزيادات ضريبية محتسبة على سعر صرف دولار السوق البالغ ٨٩،٥٠٠ ليرة، وبقاء رواتب القطاع العام بعسكرييه ومدنييه في الخدمة، وكذلك متقاعديه، على أسعار صرف افتراضية متفاوتة.
المرافق العامة تجيّر عجزها أعباءً إضافية على المواطن:
في ظل انكفاء واضح لدور القطاع العام تتزايد، لا بل تتضاعف أعباء المواطن من خلال تدخل قطاع خاص نهم و”فلتان” دون رقابة وضوابط، وكأن هذا المواطن يعيش تحت سلطة دولتين: قطاع عام غير كفؤ مرتفع التكلفة بسبب الهدر وغياب الرقابة، وقطاع خاص جشع يضيف لقاء خدماته مبالغاً كبيرة تحت تسميات غير مألوفة؛ يدفعها المواطن مكرهاً تجنباً للغرامات ولا من يحاسب، ومن هذه البدع: تكاليف معالجة” البريد وبدل اللاصق؛ ناهيك عن عدم التزام أصحاب المولدات بتركيب العدادات، وإذا تم تركيبها فمقابل عدم الالتزام بتسعيرة وزارة الطاقة، وعن الإعلان مؤخراً عن زيادة ١٥ ٪ على فاتورة المولد مقابل الزيادة التي أقرتها الحكومة على أسعار المحروقات لتغطية تكلفة المساعدة للعسكريين؛ وهناك الرسوم التي تتقاضاها شركات تحصيل الأموال في غياب صناديق الخزينة أو عدم كفايتها؛ غير أن مظاهر هذا الاستبداد والتسلط واستيفاء الخوات لا تقتصر على القطاع الخاص على مرأى ومسمع وبعلم الوزراء المعنيين، فهناك كهرباء لبنان بتعرفتها الفاحشة المفترض، وفق قرار رفعها أن تنخفض بمقدار انخفاض أسعار النفط العالمي، التي تراجعت من 110 دولار إلى حوالي 65 دولاراً لبرميل برنت، المعتمد لتحديد قيمة التعرفة، وكذلك المفترض أن ينخفض رسم العداد بمقدار انخفاض التغذية التي تتراوح بين ٤ و ٦ ساعات معظم الأحيان، وهي مبالغ هامة بمجموعها ويمكن لو أنها تستوفى بصيغة رسوم للخزينة لوفّرت تغطية لجزء كبير من تكلفة زيادة العطاءات للقطاع العام. ناهيك عن رسوم المياه الرسمية دون مياه، وتحميل المواطن أعباء سيترنات المياه المستخرجة من آبار تعتبر مورداً طبيعياً عاماً، ورسوم رخص السوق دون دفاتر سوق.
ليس بالانصياع وحده تحيا الحكومات.
هي دعوة للحكومة لتستدرك، وفي أسرع وقت، حاجة القطاع العام إلى وقفة تنطلق من روح المسؤولية تجاه مستقبل الدولة، وقواعد الحق والعدالة لإنصاف العاملين ممن بذلوا أعمارهم في خدمتها، على قدم المساواة مع من بذلوا وما زالوا يبذلون أرواحهم في سبيل الدفاع عن الوطن ورفعته.
إن ما يمكن أن يترتب عن استمرار إهمال الحكومات المزمن للقطاع العام، واقتصار اهتمامها على الاستجابة لضغوط إصلاحية ينتقيها الخارج، وإدخال الإدارة في مدار الإصلاح المستحيل، هو خطير ومكلف، وربما يكون غير قابل للاستدراك بعد فوات الأوان.
وعلى أمل أن يعقد المجلس النيابي جلسته اليوم لبحث مشاريع القوانين المتعلقة بفتح اعتمادات إضافية لتغطية عطاءات يستفيد منها المتقاعدون من القضاة وأساتذة الجامعة اللبنانية والعسكريين، دون المتقاعدين المدنيين من السلكين الاداري والدبلوماسي والتعليمي قبل الجامعي، الوحيدين الذين لا يوجد مشروع قانون يرعاهم وهم الوحيدون الذين يتقاضون معاشاتهم التقاعدية الهزيلة من دون أية إضافات، نرتقب وقوف المجلس النيابي إلى جانب حق الموظف في الخدمة أو في التقاعد بحياة كريمة، فيرفض التمييز ويؤكد على المساواة والتماثل، فيتم طرح تعديل لمشاريع القوانين المطروحة لكي تشمل سائر المتقاعدين، لا سيما وأن السير بهذا التعديل، حسب المتابعين من قياديي رابطة قدامى الموظفين لا يرفع تكلفة المشاريع بأكثر من ١٦ % ، وليراجعوا حساباتهم.
*بالتزامن مع الزميلة الجمهورية *مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه – محلل سياسات الشراكة في المعهد اللبناني لدراسات السوق



