
هدى سويد ـ إيطاليا – الحوارنيوز
مشاهدة ما تبدّد من مدن، قرى، وما تضمه من بيوت ومستشفيات، مدارس ،ملاعب وساحات، نواد ،مقاه وصالات لقاءات ،خطب سياسيّة وأعراس، ألعاب وملابس مرميّة وأجساد أُحرقت ممنوع الوصول إليها، إلاّ ما طاب للكلاب أوالحيوانات .
الجثث المتراكمة الملفوفة بالأبيض أو ما تيسر من لون، للتعرف إليها.
المرضى والأجساد المبتورة تتم محاولة معافاتها أو إجراء عملياتها في الشوارع، كيفما اقتضى الحال عن بعد أو على مقربة من المستشفيات المنسوفة والمحروقة بأطبائها، ممرضيها ومرضاها.
الناس من رجال، نساء وأطفال كما في حرب عالمية ، جمهرة مصطفة متدافعة رافعة اليد لتناول رغيف خبز، أو ساعية متمنية الحصول على نصيب طبق ساخن ، من وعاء أو طنجرة لا تكفي شعبا مُبعدا أو فلولا مهجّرة .
هكذا من هنا أستعيد عن بعد، أرى بوضوح كيف تحوّل المكان إلى وقت توقف.
الوقت توقف دون إنذار.
كيف تحّولت المدن والقرى إلى سراب ورماد، لم يتبق إلاّ البحر يُحاذي خرابها دون مواساة.
بحر مديد تلاشت قواه غير قادر على نقلها في مركب من مراكبه نحو شاطئ الأمان .
هكذا من هنا عن بعد وعن مقربة أمام شاشة باتت أخبارها عبارة عن فيلم أو مسلسل درامي طويل، ينقصهما المونتاج وتركيب الفصول بمراحلها.
هكذا عن بعد تابعت العين كل يوم وتتابع الشاشة، تراقب أقدام العائدين المتشققة المتعبة من الترحال فوق الركام.
***
المسن والمقعد على خشبة أو عربة تجرها سواعد شابة هرعت للمساعدة والمؤازرة كأن الحرب لم تقصف قوتها أو تخون فتوتها.
الأكثر حظا هو العائد أو الراحل ممن تنقله عربة أو دابة ليست بحال أفضل من حملها.
الصلاة على الموتى والدفن مغامرة يستبقان جنون قصف.
الهدنة ، وقف لإطلاق النار ودخول المساعدات محجوزة جميعها منذ أشهر.
محجوزة منذ سنين.
التطبيق ينتقص الإنسان.
آلاف يمضون لا يأبهون للخلف، يمضون يتسابقون ما بينهم ، يحملون ما تبقّى من ترحيلهم وما تبقى من أمتعتهم ، حصيرة أو سجادة ، بطّانية اتقاء للبرد أو شرشفا لخيمة .
يسيرون مع من تبقى من أفراد عائلاتهم، يتسابقون مع الزمن، النهار وحلول الظلام يريدون الوصول في أقرب وقت .
إلى أين؟ هل يعرفون العنوان؟ ألم يزل العنوان هوهو ؟ هل يُمكن التعرف على المكان؟
وحيدون أم بصحبة أفراد عائلة الأمس والأصحاب؟
أم مع من تبقّى؟
***
من هنا عن بعد أستعيد كي لا ننسى ، أراني على مقربة من فيلم يروي كوابيس لمدن كانت ربما.
مدن بات من الصعب التعرف إليها.
كيف يُمكن لهذا السيل البشري ،الذي يمضي فوق الخراب بمحاذاة البحر ،أن تنعشه رذاذات الموج فينتشي ويمضي قدما وكأنه يعرف وجهته ؟
من هنا عن بعد يتحوّل المكان إلى مدن مستحيلة لا مرئية، يتعذر معها تفريق حجر عن حجر، يستحيل التمييز ما بين حجر وآخر، حصى وأخرى،
شجرة أو عريشة سقطت متألمة فوق أغصانها أو وردة مدهوسة دون رأفة.
مستحيل التعرف إلاّ لمن سكن المكان قبل الدمار،
تستطيع خطوات الساكن فقط ، المسرعة الواثقة من تمييز شارع عن سواه ، حجر عن حجر، شجرة، وردة أو عريشة.
هو وحده الذي يصول في قلب الخراب، بإمكانه التعرف على شارعه وحيّه، على الشجرة والوردة التي انجرحت وحجر البيت الذي تناثر كالزجاج .
***
ما استعيده لمدن غابت، ذكرني دون تخطيط مسبق ببعض الإبداعات الفنية الروائية والموسيقية التي حملت عناوينها أيضا اسم “مدن لا مرئية” دون أن يكون هناك شبه واقعي .
أبادر بالقول إن لا شبيه لمدن اليوم غير المرئيّة في غزة ولبنان بمناطقه المنكوبة ، بالقطعة الموسيقيّة التي ألّفها فنان الجاز والمؤلف الموسيقي توفيق فروخ ، المقيم في باريس و أسماها بالفرنسية* ــ أنظر الإسم الأصل في الأسفل ــ ما معناه بالعربيّة “المدن اللامرئيّة” .
لوحة الغلاف تشي بالأحرى بما قصده الفنان ، سراب وغيم لسماء وجبال بالأسود والأبيض تمضي خلالهما امرأة دون مشاق .
لوحة توحي بسفر نحو غاية لا يمكن رؤيتها.
أو المضي نحو مدينة أو مدن تعرفها قد يمكن الوصول أوالتعرف إليها رغم عدم وضوح الرؤية.
بالتأكيد عندما وضع فروخ المقطوعة هذه سبق بتأليفه الخراب الذي جرى مؤخرا، لكن هل يمكن القول أن البرانو هذا يمكنه أن يكون شاهدا الآن .
عندما وضع فرّوخ البرانو هذا ،إنما عمل على الأرجح كل من الحنين والغياب، الحب لمدن بعيدة أو ما ينوب عنها، لذا النغمات والإيقاعات المتماوجة وكيفية سريانها تحاكي القلب بتنوعات أدواتها الموسيقية.
هل يُمكن القول بأن البرانو يُسقط حلما في الروح بموسيقاه ، إنه حلم المسافر الذي لا يصل، الحالم الموعود بمدن غير منظورة، تعوقه المسافات، لكنه يمضي مع أمل الوصول .
أو هي مدن يحاكيها الخيال ، خيال البعيد المتألم التي باتت مدينته ضربا من الاستحالات.
عندما كنت استمع للمقطوعة كنت أتماوج فوق رقة اللحن ، حالمة إلى الحنين والشوق لمدينتي ولولع لا أعرفه ، شبيه بأوهام مدن لا مرئية تماما كما أرى الآن بما حلّ حيث تحولت المدن رذاذا رماديا لبحر استعصى عليه الإنقاذ.
***
ساقني استعادة المشاهدات إلى رواية وأديب .
بمناسبة الذكرى المئوية لولادة الروائي والشاعر والسياسي الإيطالي الكبيرإيطالو كالفينو (1923ـ1985) أقيم احتفال ثقافي مؤخرا في روما تحية له، تخلل المناسبة نقاشات مفكرين وروائيين مع عرض لفيلم وثائقي يتناول سيرته الفنية وحياته ما بين تورينو، باريس ، روما ونيويورك ، استعين من خلاله بأهم روائيتين له هما “البارون متسلق الأشجار” و”المدن اللامرئية “* ــ أو الخفيّة كما يترجمها البعض ــ وما يهم نصي هذا الرواية الأخيرة (1972) ولأنها في الأصل من روائع كالفينو حقا ، ابتكر بأحداثها رواية استثنائية إنما هي مزيج يجمع ما بين السرد ، القصيدة والفلسفة ،غنيّة بالرموز والإستعارات، بالتالي تجدر الإشارة أنها حققت نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا وتمت ترجمتها إلى العديد من اللغات وتُعتبر من كلاسيكيات الأدب الإيطالي في العصر الحديث .
الرواية ليست شبيهة بالخراب بمعناه التقليدي الواقعي، لكنها تتواصل بشكل أو بآخر في نقاط ، تواصل نستكشف من خلاله معنى المدينة غير المرئية في كل المدن ومعانيها التي فنّدها كالفينو .
الرواية بإضاءة سريعة (لست هنا في إطار العرض والنقد) عبارة عن حوار خيالي ممتع في تسعة فصول لمدن مستحيلة ، حوار شاء كالفينو أن يدور ما بين الرحّالة ماركو بولو وأمبراطور التتار المغولي قوبلاي خان،الذي يسأل المستكشف عن امبراطوريته الشاسعة التي زارها ، فيروي بولو عن المدن التي زارها ، يصنفها بخمس وخمسين مدينة ، لكنها غير حقيقية بل تمثيلات رمزية وتأملات ، لكل منها أوصافها والتي تحمل كل منها اسم امرأة من أصل كلاسيكي ديوميرا، إيسيدورا.. إلخ .
لذا تتنوع عناوين المدينة ومواضيعها ،”إنما هي مدينة كمرآة للروح بما تكنه من ذكريات، رغبات، خوف ..المدينة هي بمثابة فضاء داخلي ومناظر طبيعية للروح . المدن في الرواية ليست مدن حقيقية إنما رمزيات وتأملات في أمورالذاكرة،الرغبة، الثقافة ،البيئة ، الوجود الإنساني ” كما وصفها كالفينو، وبالتالي تمت تسميتها مثلا بالمدن والذاكرة ، المدن والرغبة ، المدن المتصلة ، المدن والموتى، والمدن المخفيّة.. إلخ ،عمد من خلالها إلى تأمل دقيق في اللغة ، اليوتوبيا وعالمنا الحديث معالجا باستناده على تلك التمثيلات والتأملات على تقديم قصيدة حب أخيرة للمدن الرمزية.
ما هو مثير للإهتمام الرسائل التي يحاول الحوار إيصالها للأمبراطورعبر المدن الوهمية الحقيقية هذه ، ففي موضوع المدينة الذاكرة ـ الأمنية ـ والهوية ، وهي المادة المركزية في الرواية التي أرغب بالتوقف عندها، لأن المدينة حسبما تناولها كالفينو ، هي إرث من ذاكرة الذين عاشوا فيها ، كما أن وصف واستعادة المدينة يوفر وسيلة لاستعادة الماضي والحفاظ عليه ، بينما الأمنية هي قوة أخرى تخترق المدينة، وقد تم بناء المدينة لإشباع الرغبات، لكنها قد تكون أيضا مكانا ومصدرا للإحباط والوهم ، بينما الهوية تلعب دورا مهما ، فالمدينة هي مكان الهوية سواء الفردية أو الجماعية حيث يكون الشخص فيها مألوفا ومحددا أو العكس كالغربة والإخفاء .
وإن توقفت عند مدينة زايرا فهي مدينة مبنيّة من ذاكرة الأحداث التي جرت فيها وليس من بنيتها المادية، فتروي كل ليلة قصة عابرة تستند إلى تشابك بين العلاقات الإنسانية والتجارب الإنسانية التي تحدد المدينة خارج أسوارها .
أما عن المدن الشبيهة بالمدن المطروحة اليوم فتتناولها مدينة زورا، هي المدينة المنظمة بشكل مثالي وهي التي تبقى راسخة في أذهان من يزورها لكنها مدينة لا تتغير ولا تستطيع البقاء على قيد الحياة.
أما موريليا فتدعو الزوار إلى مواجهة المدينة الحالية التي تحمل اسمها بالصور القديمة التي ستعيد إحياءها بوتيرة سريعة .
مقطع رومانسي يحمل التذكير بالذاكرة وتأملا في التغييرو البصيرة الحنينية للمدينة .
جميعها رسائل بأنه لا يمكن ضم مدن للأمبراطورالمغولي ــ كما المشاريع الحالية للضم ــ ان كانت خالية من الذاكرة والروح والهوية .
ربما يعلم المرء لما تدفقت السيول البشرية عائدة للإتكاء على حجر لأن الحجر ذاكرة وهوية .
وهذا ما ينقلنا إلى ما طرحه جين جاكوبس عن سؤال رئيسي للتخطيط الحضري ومعارضيه في أطروحته ، مفاده هل التخطيط الحضري حل لمشاكل المدن أم أنها نظرة فكرية ملوثة بالطوباية تتجاهل طريقة تفاعل المدن ؟
وبعد طروحات تقنية يصل إلى قلب مبادئ التخطيط الحضري التقليدية مفضلا البيانات غير التقليدية للمقياس البشري ، لأن الكائن الحي الحقيقي للمدينة يجب أن يكون أكثر قيمة من القواعد المجردة ، ومن ناحية أخرى فإن المخططين الذين يتأثرون بقواعدهم التشغيلية والإيديولوجيات المنفصلة عن الحقائق، ينتهي بهم الامر إلى فصل التخطيط عن احتياجات المجتمع ، ما يخلق اختلالات من شأنها إذا تفاقمت أن تؤدي إلى موت المدن.
* تقتضي الإشارة إلى أنه سبق تم نشر نصين سابقين على موقع الحوارنيوز، ما بين أكتوبر ونوفمبر.
Les villes invisibles*
Le città invisibili*