إغتراب

حكاية طالب لبناني في فرنسا:هروب من انتحار مؤجّل !

 

محمد عساف – الحوارنيوز- فرنسا

 

ما هي الهجرة أصلًا؟

هل هي عبور الحدود بحثًا عن حياة جديدة، أم هروب من وطن، الآمال به معلقة والفرص نادرة؟

هل هي رحلة نحو مستقبل أفضل، أم مجرد محاولة يائسة للنجاة؟

 حين قررت الرحيل، لم يكن الأمر سهلًا. كنت قد تخرجت من كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية بتقدير جيد، ومع ذلك، لم أجد فرصة عمل في لبنان، حيث تسيطر المحسوبيات على كل شيء، ولا مكان لمن لا يملك “واسطة”.

 أنا ابن عائلة من الفلاحين، لا ننتمي إلى فئة الإقطاع أو من الطبقة البرجوازية، ولا نملك نفوذاً أو علاقات تفتح لنا الأبواب، لذلك كنت أعلم أن السفر هو طوق النجاة الوحيد. لم أحمل معي سوى مبلغ بسيط من المال، يكفي فقط لأول شهر: إيجار غرفة وطعام بالكاد يسد رمقي.

 

وصلت إلى فرنسا، ذلك البلد الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ، الدولة التي قيل انها “انتدبت لبنان يومًا”، ولم يكن لأجدادي خيار سوى النضال من أجل حريتهم. أما أنا، فعدت إليها اليوم بإرادتي، باحثاً عن مستقبل لم أجده في وطني.

اخترتها لأنها كانت الوجهة الأكثر منطقية للطلاب اللبنانيين، فجامعاتها الرسمية ليست باهظة الثمن، وتسمح لنا بالعمل أثناء الدراسة. القانون الفرنسي يتيح للطلاب العمل 80 ساعة شهرياً، وهو ما يكفي بالكاد لتأمين الإيجار والطعام وبعض الاحتياجات الأساسية.

 

لكن الحياة لم تكن سهلة. لم أحظَ بمنحة دراسية، وأهلي ليس باستطاعتهم تأمين مبلغ شهري، كما هو حال معظم الطلاب اللبنانيين في فرنسا، الذين باتوا يعانون في الغربة بين الدراسة والعمل، في محاولة للبقاء على قيد الحياة. لأنه لم يكن لدينا دعم كاف من دولتنا اللبنانية قبل مجيئنا كالحصول على “منح دراسية”، ونتفهّم هذا الامر لاننا نعرف وضع وطننا المأساوي على جميع الصُعد، لذلك كنت أستيقظ كل صباح، أعدّ طعامي لليوم بأكمله، علبة تونة، قطعة خبز، وبعض الزعتر الذي حملته معي من قريتي الجنوبية التي تدمرّت. كنت مضطراً للتأقلم مع النظام الفرنسي، حيث يُتناول الغداء عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، وهو أمر لم أعتد عليه في البداية، لكنه صار جزءًا من روتيني اليومي.

 

في الجامعة، تبدأ المحاضرات صباحاً وتنتهي عند الخامسة مساءً، لكن نهاري لم يكن ينتهي هناك. بينما كان زملائي الفرنسيون يخططون للخروج مساءً، كنت أركض للحاق بالمترو، لأن عملي في المطعم اللبناني يبدأ عند السادسة. أعمل لكي أؤمِّن قوت يومي وأدعم نفسي ماديا. فأنا اليوم: نادل، أمين صندوق، وطباخ، كي ينتهي دوامي عند منتصف الليل، فأعود إلى غرفتي الصغيرة، مرهقًا، أخلد إلى النوم في البلد الذي استوطنته حديثاً، أسعى لاعتناق جنسية جديدة، هربًا من انتحاري المؤجل، أعيد وأكرر حالي كحال أغلب زملائي اللبنانيين في بلاد الاغتراب.

 

كنت أواسي نفسي بفكرة أنني “أزرع الآن لأحصد الراحة لاحقاً”، كما يقول لي أخي المغترب منذ سنوات. لكن الحقيقة أن الغربة ليست مجرد بعد عن الوطن، بل هي أيضاً حمل ثقيل من المسؤوليات والهموم. لا يمكنك الاستسلام، لأن لا أحد هنا سيمدّ لك يد العون. بل على العكس، عليك أن تثبت أنك تستحق هذه الفرصة، وأنك قادر على الصمود.

 

تمر الأيام، ويصبح الوطن مجرد ذكرى جميلة ومؤلمة في آنٍ معًا. نراه في الأخبار، نسمع عن أزماته، ونرسل بعض المال لأهلنا في الوطن، لأننا نعرف أن الحياة أصبحت شبه مستحيلة. نتصل بهم عبر “الفيديو”، نبتسم، نضحك، كمحاولة لإخفاء تعبنا، لكن أعيننا تفضح كل شيء. نحن مهاجرون عن بعد، حاضرون في الصور، غائبون عن الواقع.

 

وفي كل ليلة، حين أستلقي على سريري، يتكرر السؤال في رأسي: هل تستحق هذه التجربة كل هذا العناء؟ هل سأعود يوماً؟ أم أنني، كالكثيرين قبلي، سأحصل على جنسية جديدة، وأصبح لبنانياً فقط في الذكريات يعود الى وطنه سائحاً؟

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى