رأي

التهجير من الهوية اللبنانية: شرعنة الوصاية والاستقواء(حسام مطر)

 

الحوارنيوز – صحافة

 

تحت هذا العنوان كتب د.حسام مطر في صحيفة الأخبار:

 

إنّ الجهد الممنهج لإخراج الجماعة الشيعية (باعتبارها رافعة مشروع مواجهة العدو الإسرائيلي) والمجتمع المقاوم (وهو أعمّ)، من الهوية الوطنية ليس جديداً، بل امتدّ حديثاً بأشكال مختلفة منذ عام 2005. تشارك في هذا «الإقصاء الرمزي» مجموعات طائفية انعزالية تعتقد بهرمية الهويات اللبنانية (هناك لبناني حقيقي ولبناني مصطنع)، ومجموعات ليبرالية متغربنة (كثر من منتسبيها طائفيّون)، المشترك بينها جميعها هو العداء للمقاومة والارتباط التبعي بواشنطن. الهدف النهائي لعملية إعادة البناء الاجتماعي للهوية تظهير أنصار المقاومة في لبنان بأنهم جالية أجنبية وغرباء وبذلك «يتشرعن» استهدافهم وتهميشهم وعزلهم والتآمر للقضاء عليهم.

وبما أنهم «جالية أجنبية» يمكن استنهاض هوية لبنانية تتشكّل على العداء لهم من ناحية وشرعنة حرمانهم من حقوق المواطنة من ناحية أخرى. فالتمييز بين «الداخلي» (الوطني) و«الخارجي» (الغريب) يكرّس فاصلاً صراعياً شديد الوضوح يتم تعزيزه بضخ متواصل لمشاعر الخوف والتهديد الأمني والاقتصادي والثقافي (مثال: التعامل الإعلامي مع «مسيرة الدراجات النارية في الجميزة»).

منذ عام 2005، جرى العمل على ثقفنة الصراع السياسي مع المقاومة في لبنان وفق تقسيمة ليبرالية بين ثقافتَي حب الموت وحب الحياة. تواصلت عمليةُ «التطهير الثقافي» عبر الاستعلاء الهوياتي (مقولة «ما بيشبهونا») والنفخ والأسطرة في الهوية اللبنانية والتنكيل بثقافة المقاومة المحتضنة شيعياً بتصويرها جاهلة لا تعرف شكل الكتاب حتى (يمكن بسهولة استرجاع عدة مقولات تافهة في هذا الشأن)، وقبيحة لا علاقة لها بالفنون والجماليات (مع التصويب على أشكال محددة من الفن ذات خصوصية لبنانية)، ومتزمتة لا علاقة لها بالحداثة (ولا سيما في ما يخصّ نمط الحياة)، وأصولية لا تتلاقى مع الانفتاح والتنوّع. وبلغت هذه المحاولات ذروتها في محاولة سلخ المقاومة عن الهوية العاملية وليس اللبنانية فقط.

وفي هذا السياق، يظهر سعي لاستغلال الإنجاز الاستخباري الإسرائيلي في الحرب الأخيرة كدليل على انعدام التقانة والإبداع لدى الحزب، فالإبداع والذكاء هما سمتان للهوية اللبنانية «النقية/الحقيقية» ولا بد من احتكارها. إنّ إنكار الإنجاز الاستخباري الإسرائيلي (والغربي) الاستثنائي وإنكار إبداع مقاتلي الحزب وتوظيفهم الفعّال للمستوى المتاح من التكنولوجيا (إلى درجة النجاح في إيصال مسيّرة حديثة إلى نافذة غرفة نوم بنيامين نتنياهو في ظل أعلى درجات الاستنفار الإسرائيلي) هما تطرّف على شاكلة حدوة الحصان.
وفق هذا الخطاب، المقاومة هي على قطيعة مع الهوية اللبنانية ذات المركزية الليبرالية المتطلّعة نحو الغرب ونمط الحياة الاستهلاكي والنموذج الاقتصادي الريعي. وبذلك واقعاً تخرج مجتمعات لبنانية كاملة من الهوية الوطنية وليس المقاومة وحدها، إلا أن تلك المجتمعات مسكوت عنها كونها لم تنتظم في مشروع مواجهة مع المنظومة الأميركية.

وإن كانت الهويات اللبنانية كلها اختبرت عمليات إعادة بناء متواصلة، إلا أن النقد يطاول هوية مجتمع المقاومة مرة باعتبارها غادرت ماضياً ما ومرة لكونها تعود لماضٍ ما. فالمعيار هو الهوية اللبنانية كما تشكّلت في سياق مديني واستعماري واقتصادي وطائفي محدد، ومتقمّصو هذه الهوية هم لجنة الحكم، يقبلون ويطردون ويمنحون العلامات في المواطنة. بعض هؤلاء خاضوا مواجهتهم مع المشروع الناصري بالنفخ في الزعم الفينيقي المتفوّق جوهرانياً على العرب، واليوم يخوضون المواجهة بمقولات «الحضن العربي» و«نظام المصلحة العربي» بعدما انتقل مركز العروبة نحو الخليج بوصفه محوراً غربياً للطاقة والاستثمارات والأمن.

هكذا يصبح متاحاً استدراج العروض الدولية والإقليمية لتمويل «الحرب على إيران في لبنان». وبما أنه جرى تصوير أنصار المقاومة على أنهم مجرد جالية إيرانية/ أجنبية، أصبح «مشروعاً» خطاب الاستقواء بنتنياهو عليهم والشماتة بدمار قراهم والتحريض على قتلهم، بعدما كان ذلك يُعدّ فعل خيانة وانتهاكاً للقيم الوطنية

ساهمت هيمنة خصوم المقاومة على الفضاء الإعلامي في دفع الاستقطاب السياسي والهوياتي إلى أقصاه عبر عمليات مكثفة من «التمثيل السلبي» وفرض صور نمطية عن المقاومة ومؤيديها تؤكد «أجنبيتهم» (مثل أن ينشغل الإعلام في ذروة تحرير الجنوبيين لبلداتهم الحدودية بـ«غياب العلم اللبناني»). ولم يفوّت المتربّصون حدثاً بمأسوية انفجار مرفأ بيروت لاستغلاله بوصم الشيعة أنهم اعتكفوا عن الحزن الوطني (اتهام شارك فيه إعلامي لبناني بارز يعمل في الخليج، قبل أن يحذف تغريدته نتيجة ما استجلبته من إدانات).

لكن استكمال مشروع «تهجير الهوية» الشيعية والمقاوِمة لم يكن ليكتمل بدون روافد سياسية، يمكن الحديث عن ثلاثة منها على الأقل:

الأوّل، هو اختزال علاقة المقاومة بإيران بكونها علاقة وكالة (وهو ما يعترف كثر من الأكاديميين الغربيين بكونه تعريفاً بدائياً وقاصراً). هذا الاختزال تم توظيفه لإطلاق مقولة «الاحتلال الإيراني» للبنان حين حاز حزب الله وحلفاؤه الأكثرية النيابية بعد انتخابات 2018، وبذريعة ذلك فُرضت ضغوط اقتصادية على البلد من باب التأديب وتدفيع الثمن (المفارقة أن إيران لا يمكنها ابتزاز لبنان أو ترهيبه على عكس قوى المحور المقابل).

ثانياً، تصوير المقاومة على أنها معادية لفكرة الدولة ونقيض لها، فيما هي واقعاً لم تنبت إلا لغياب الدولة المتعمّد عن تطبيق نظرية للأمن الوطني تعالج التهديد الصهيوني ولعجز إرادتها السياسية عن توفير مستلزمات ذلك.

ثالثاً، تأطير حزب الله بعد عام 2015 بكونه جزءاً من منظومة الحكم بكل موبقاتها، ثم حارساً للمنظومة، ثم أخيراً جعله، مع حليفه حركة أمل، المنظومة نفسها. لكل من الحزبين علاقته بنظام الحكم والسلطة ويصح فيه النقد والاعتراض، لكن النظام السياسي اللبناني وشبكاته الطائفية والمالية أكثر تعقيداً وشمولاً بكثير من دور الحزب والحركة، وهو نظام مستتبع بنيوياً للمراكز الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر حتى تاريخه.

لكن التعبئة المطلوبة ضد الهوية المقاوِمة أفضت إلى تحويل «الثنائي الشيعي» كأنه الحاكم المستبد في نظام سياسي بسيط ومجتمع متجانس، وهكذا تظهر مواجهة الثنائي على أنها فعل نضالي ثوري وهو ما يدغدغ مشاعر الجماهير الغاضبة والمستثارة. في الواقع، كثر من مطلقي هذا التضليل هم مكوّن محوري في شبكات مصالح النظام الطائفي الداخلية والخارجية والأكثر نفوذاً وانتفاعاً منه. دليل بسيط على ما تقدّم، أنّ بعض خصوم المقاومة ممّن سمّوا رئيس الحكومة المكلف نواف سلام يهاجمونه الآن بشدّة خشيةً من أجندته لإصلاح القطاع المصرفي اللبناني لمسؤوليته الكبرى في الانهيار الاقتصادي اللبناني.

بهذه الثنائية الثقافية والسياسية لتهجير الهويتين الشيعية والمقاوِمة تكتمل فصول تحويل مجتمع المقاومة إلى جالية أجنبية في لبنان (من ضمن ذلك تكرار مقارنة تجربة حزب الله بتجربة منظمة التحرير في لبنان). وهكذا يصبح متاحاً استدراج العروض الدولية والإقليمية لتمويل «الحرب على إيران في لبنان». وبما أنه جرى تصوير أنصار المقاومة على أنهم مجرد جالية إيرانية/ أجنبية أصبح «مشروعاً» خطاب الاستقواء بنتنياهو عليهم والشماتة بدمار قراهم والتحريض على قتلهم، بعدما كان ذلك يُعدّ فعل خيانة وانتهاكاً للقيم الوطنية.

وثانياً أصبح الجهر بطلب الوصاية الأميركية فضيلة، ولا سيما أنه لم يعد من الممكن نكرانها من فرط بروزها. فبدأت تظهر مقولات عجيبة تشرح العلاقة المتينة بين الاستقلال والوصاية، فلا استقلال للبنان من دون وصاية يُستقوى بها، ولا سيادة للبنان من دون المشاركة في صراع المحاور ضد إيران (ثم يصفّق أصحاب هذه المقولات، حتى تتورّم أيديهم، لمقولة الرئيس المنتخب جوزف عون عن الحياد الإيجابي). ومن المرجح أن أنصار هذه الحملة يراهنون على أنه من خلال تمجيد الوصاية والاستقواء وتكريسهما يمكن إرساء مسوّغات لخطاب التطبيع مع كيان العدو لاحقاً.

الأصل في الهوية اللبنانية التنوّع والتعدّد، فهي ينبغي أن تتحدّى كل أشكال التهميش السياسي والاقتصادي والطبقي والمناطقي والثقافي. إنّ فكرة المقاومة والعداء لكيان العدو الصهيوني مكوّن أصيل من الهوية اللبنانية (بمعزل عن المواقف حيال كيفية تنظيم علاقة المقاومة بالدولة)، وهو ما تثبته استطلاعات الرأي المختلفة (بحسب البارومتر العربي لعام 2019، يجد 79% من اللبنانيين أن إسرائيل هي التهديد الأكبر لبلدهم). كذلك هي حال نمط الحياة المحافظ لدى شرائح واسعة من كل الطوائف اللبنانية (ولا سيما خارج مراكز المدن الكبرى)، وليس محصوراً ببيئة المقاومة اللصيقة (البيئة المؤيّدة العامّة للمقاومة هي شديدة التنوّع الثقافي حتى في نمط الحياة اليومية).

وختاماً، يلزم التنبيه أن لا تدفع الحملات المعادية للمقاومة تحت ستار «الهوية اللبنانية» إلى ردود فعل عدائية تجاه الانتماء اللبناني. المسؤولية اليوم تقتضي من قوى المقاومة في لبنان ومؤيديها تثبيت مواقعهم وتعزيزها داخل الدولة اللبنانية والثقافة اللبنانية ضمن رؤية منفتحة على التعدّدية الداخلية (الثقافية والطبقية والسياسية والمناطقية) وكذلك على الارتباط المتين بأحوال الجوار والإقليم المأزومين بفعل سياسات الهيمنة الأميركية. وهذا الأمر يستدعي تعزيز المكوّن الاجتماعي والنضالي لمشروع المقاومة بما يسمح بإعادة تشكيل خطوط التنافس المحلّي وفق قضايا حقيقية تخصّ الناس العاديين، وهو تنافس لا بد أن يقع قسم كبير منه داخل بنية الدولة لتطوير وظيفتها الاجتماعية وليس للمغالبة الفئوية.

*أستاذ جامعي

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى