كتب د. ميلاد السبعلي* – الحوارنيوز
لطالما كانت التحولات السياسية الكبرى في الشام ناتجة عن انقلابات عسكرية أدت إلى انهيار نظام قائم وصعود سلطة جديدة تسعى إلى فرض شرعيتها. وربما من المفيد النظر الى سقوط أديب الشيشكلي عام 1954 ومقارنته مع سقوط نظام بشار الأسد عام 2024، حيث تكررت الديناميكيات نفسها: حكم سلطوي، انهيار سياسي وأمني، ثم صعود قوة جديدة تحاول فرض نفسها وكسب شرعية دستورية وشعبية ودولية.
اليوم، بعد دخول هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها إلى دمشق، وسقوط نظام الأسد، وتشكيل حكومة تصريف أعمال من أتباع الشرع، أعلن أحمد فاضل الشرع (الجولاني) نفسه رئيسًا لسوريا، وبدأ بتفكيك النظام القديم عبر:
- تعليق العمل بدستور 2012.
- حلّ مجلس الشعب والجيش، وإعلانه عن إعادة تشكيل جيش وطني جديد.
- العمل على تشكيل مجلس تشريعي انتقالي وحكومة انتقالية جامعة، والدعوة إلى حوار وطني لصياغة دستور جديد، على أساسه تُجرى انتخابات تشريعية ورئاسية لكسب الشرعية الدستورية الكاملة.
- حلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية.
إلا أن هذا المسار لا يزال محفوفًا بتحديات كبرى، منها التوازنات الدولية، والمخاطر الداخلية، والموقف من إسرائيل، إضافة إلى مصير القوى السياسية القديمة مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يجد نفسه مرة أخرى في موقع محفوف بالمخاطر.
********************************
أولًا: مقارنة بين سقوط الشيشكلي وسقوط الأسد
- كيف سقط الشيشكلي والأسد؟
1954: الشيشكلي واجه انتفاضة داخلية من الجيش والقوى السياسية، فاستقال وسافر إلى الخارج دون مقاومة.
2024: الأسد سقط بعد حرب طويلة استمرت أكثر من عقد، حيث سيطرت هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها على دمشق بعد تسليم المناطق والمدن الرئيسية دون مقاومة تذكر.
- القوى الفاعلة بعد السقوط
أ- القوى الفاعلة بعد سقوط الشيشكلي (1954)
الطرف المنتصر: قاد اللواء مصطفى حمدون تمردًا عسكريًا أطاح بالشيشكلي، وأعاد السلطة إلى الرئيس السابق هاشم الأتاسي، مما منح العملية طابعًا مدنيًا شرعيًا رغم أنها بدأت بتحرك عسكري.
النظام الجديد: تمت إعادة العمل بدستور 1950، وعُقدت انتخابات برلمانية، وعادت الحياة الحزبية إلى نشاطها الطبيعي، لكن الجيش احتفظ بنفوذه القوي في السياسة.
المعارضة السياسية: استعاد الحزب الوطني وحزب الشعب قوتهما، بينما صعد حزب البعث ليصبح قوة متنامية بين الضباط والسياسيين. أما الحزب السوري القومي الاجتماعي، فقد واجه عزلة سياسية نتيجة اتهامه بموالاة الشيشكلي، ثم اجتثاثًا تاماً بعد اتهامه بحادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي عام 1955.
القوى الخارجية: العراق والسعودية ومصر دعمت القوى المناهضة للشيشكلي، فيما راقبت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا الوضع دون تدخل فعلي.
ب- القوى الفاعلة بعد سقوط الأسد (2024)
بعد سقوط حكم الأسد، ظهرت عدة قوى على الساحة، لكل منها دور وتأثير مختلف:
الطرف المنتصر: هيئة تحرير الشام والفصائل الإسلامية المتحالفة معها، والتي تعمل الآن على تحويل انتصارها العسكري إلى نظام سياسي مستقر.
النظام الجديد: يعتمد على إعلان الشرع تعليق الدستور السابق، وتأسيس نظام انتقالي، مع حل الجيش القديم وبناء جيش وطني جديد.
المعارضة السياسية: لم تتبلور بعد، وعلى الأرجح أن تشمل الأحزاب القومية والعلمانية التي كانت جزءًا من الجبهة الوطنية التقدمية، أو قوى كانت معارضة لنظام الأسد لكنها تجد نفسها اليوم أمام سلطة جديدة متسلطة ذات طابع إسلامي، أو ممثلي الطوائف الأخرى التي بدأت تبلور حضورها السياسي.
القوى الخارجية:
− الدعم العربي لإعادة الإعمار مشروط بعدم وقوع سوريا تحت النفوذ التركي أو الإخواني.
− الموقف الروسي لا يزال غير واضح، حيث تحاول موسكو التفاوض مع الأميركيين بشأن سوريا ضمن ملف الأزمة الأوكرانية، وبالتالي الانفتاح التدريجي والمشروط على نظام الحكم الجديد.
− تركيا تسعى إلى إيجاد تسوية للقضية الكردية ضمن توازنات تحفظ نفوذها الى الحد الأقصى مع مراعاة بعض المصالح العربية.
− إسرائيل تفضل رؤية سوريا مقسمة، أو على الأقل ضعيفة وغير قادرة على تهديدها.
وبرغم أن السلتطين التي تلت حكم الشيشكلي وحكم الأسد تفتقران الى المشروعية الدستورية، إلا أن السلطة الجديدة بعد الشيشكلي أعادت العمل بدستور 1950 واعادت رئيس الجمهورية السابق الى موقعه. فيما سلطة الشرع بحاجة الى مسار انتقالي لاستعادة الشرعية الدستورية والشعبية.
********************************
ثانيًا: شرعية أحمد الشرع وتوازناته السياسية
- الشرعية الدستورية والشعبية
✅ تعليق دستور 2012 يمنح الشرع حرية إعادة هيكلة النظام، لكنه يفتح الباب أمام مخاوف من حكم استبدادي إسلامي طويل الأمد. وفراغ دستوري.
✅ تشكيل مجلس تشريعي انتقالي خطوة ضرورية، لكنه سيواجه تحديًا في ضمان تمثيل كافة القوى السياسية والمجتمعية.
✅ الحل النهائي سيكون من خلال دستور جديد وانتخابات حقيقية، لكن نجاح هذه العملية يعتمد على التزام الشرع بالتعددية السياسية والتمثيل الحقيقي لإرادة السوريين العامة وليس لفئة منهم.
- مخاطر الإصطراع الداخلي وقيام حكم استبدادي إسلامي
إذا لم يتمكن النظام الجديد من تحقيق توافق سياسي داخلي واسع، فإن سوريا قد تواجه أحد السيناريوهات التالية:
- حكم إسلامي استبدادي: إذا حاول الشرع إقصاء الأقليات والقوى العلمانية والقومية، فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة الفجوة الاجتماعية، وظهور حركات تمرد داخلية، مما يعزز فرص الفوضى والانقسام الداخلي.
- نظام فيدرالي ضعيف: إذا رفضت المناطق الأخرى مثل الجنوب، الشمال الشرقي، والساحل الاعتراف بشرعية الشرع، فقد يؤدي ذلك إلى تشكيل حكم ذاتي منفصل في هذه المناطق، مما يعني قيام دولة مركزية هشة وعاجزة عن فرض سلطتها على كامل البلاد.
- التقسيم الفعلي لسوريا: في حال رفضت بعض المناطق الخضوع لحكم الشرع، وتدخلت القوى الإقليمية لدعم هذه الانقسامات، فقد يتحول الوضع إلى تقسيم دائم بين كيان إسلامي في الشمال والوسط، وكيانات أخرى مدعومة دوليًا في الجنوب والشمال الشرقي والساحل.
- المسألة الكردية والضغوط التركية
- تركيا لا تزال قلقة من المسألة الكردية في الشمال الشرقي، وخاصة لجهة حصول الاكراد على حكم ذاتي أو فدرالية، مما يشجع أكراد تركيا (وحتى إيران) للمطالبة بنظام مشابه. غير أن الحكومة التركية الحالية تحاول التوصل إلى تسوية مع عبد الله أوجلان للتخلي عن الصراع المسلح والتحول الى حزب سياسي مقابل غطلاق سراحه، مما يتيح لها إدارة هذا الملف دون تصعيد عسكري أو مخاطر انفصالية.
- تحرص تركيا على أن أي حل للمسألة الكردية يجب أن يراعي توازن النفوذ بينها والدول العربية، التي ترفض دعم أي نظام موالٍ بالكامل لأنقرة، مما قد يعيق عمليات إعادة الإعمار واستعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
- الشرع مضطر إلى التعامل بحذر مع الأكراد، حيث أن موقفه المتشدد قد يدفعهم نحو تحالفات جديدة مع القوى الغربية أو حتى إسرائيل، والقيام بمقاومة عسكرية ضد حكمه ومحاولة الانفصال السياسي.
- التوازنات الإقليمية والدولية الأخرى
- روسيا: كما ذكرنا سابقا، فبرغم أنها تحاول الانفتاح الحذر على حكم الشرع، للحفاظ على بعض القواعد والعقود القائمة، إلا أن موقفها لم يُحسم بعد، حيث تظل سوريا ملفًا مرتبطًا بالأزمة الأوكرانية وبمصالح موسكو الاستراتيجية هناك وتفاهماتها مع ترامب.
- إيران: ما زالت تبحث عن إبقاء نفوذ ما، ولو ضعيفا، في حال نشوء حكم جديد يكسب الشرعية الدستورية والشعبية والدولية مع الوقت. وإلا فقد تذهب الى دعم مقاومة عسكرية تهدف الى تقويض أو إضعاف نظام الشرع.
- الدول العربية: قطر تدعم حكم الشرع بالتعاون مع تركيا. السعودية والامارات تدعمه بحذر وبشرط عدم تسليم البلاد للنفوذ التركي وإقامة حكم إسلامي للاخوان المسلمين، لما لهذا التطور من تأثير سلبي على عدد من الدول العربية وخاصة في الخليج.
- إسرائيل:
− تفضل أن تبقى سوريا دولة ضعيفة ومقسمة، لتضمن عدم عودتها كقوة إقليمية تهددها.
− لديها طموحات في الجنوب السوري وصولًا إلى الفرات، ما قد يشكل خطرًا على وحدة سوريا إذا لم يحدد الشرع موقفه من الاحتلال الإسرائيلي.
− إذا بقيت سوريا موحدة، فإن إسرائيل ستدفع نحو تطبيع العلاقات معها، وهو تحدٍ حساس لأي حكومة جديدة، خاصة في ظل احتمالات ضغوط أميركية في هذا الاتجاه، خاصة اذا استطاع ترامب التوصل الى ضم السعودية الى الاتفاقات الابراهيمية، فتكون الشام هي الوجهة التالية له.
********************************
ثالثًا: الحزب السوري القومي الاجتماعي في المشهد الجديد
- وضع الحزب بعد سقوط الأسد
- حلّ الجبهة الوطنية التقدمية أدى إلى نزع ترخيص الفصيل القومي الذي كان جزءًا منها. علماً أن الحزب قائم قبل الاستقلال الشامي وقيام الدولة، ويقول أنه ليس بحاجة لترخيص للعمل على نهضة الأمة.
- الحزب يعاني انقسامًا داخليًا بين عدة أجنحة، مما يجعله أكثر ضعفًا في مواجهة الحكم الجديد، ويجعل تشكيل استراتيجية موحدة للمرحلة القادمة في الشام مسألة صعبة المنال.
- السيناريوهات المحتملة
أ- الإقصاء التام كما حدث في 1955، حيث قد يرى النظام الجديد الحزب كقوة قومية لا تتماشى مع مشروعه الإسلامي، ويصنفه أنه من بقايا نظام الأسد، كما صنف سابقا من حلفاء الشيشكلي، مع أنه لم يكن له دور أساسي في الحكم لا مع الشيشكلي ولا مع الشرع. وعسى أن يدفع ذلك الحزب الى إعادة تقييم تحالفاته مع الأنظمة والالتصاق بها ووراثة كل موبقاتها دون أن يكون له دور أساسي فيها أو مكاسب أساسية منها.
ب- دمجه في العملية السياسية، خصوصًا مع الحاجة الى توسيع وتنويع المشاركة في الحوار الوطني والحكومة الانتقالية الجامعة، ورغبة الدول العربية في دعم قوى غير إسلامية لضمان توازن القوى داخل الشام.
ج- معارضة النظام الجديد بالتحالف مع عدد من القوى التي ترى فيه نموذجا للحكم غير مناسب للمجتمع في الشام، وبالتالي هو حكم مؤقت، مع تحاشي الاقصاء كما حصل للحزب بعد المالكي.
د- مواجهة النظام الجديد في حال قيام جبهة معارضة مسلحة أو رفض للحكم الجديد من قبل قوى وازنة في مناطق تبقى خارج سيطرة حكم الشرع، يكون الحزب إحداها. وهذا خيار له ما له وعليه ما عليه فيما يتعلق بمستقبل البلاد ووحدتها، يجب أخذها بعين الاعتبار، ووضع استراتيجية خاصة للعمل الحزبي في كل من المناطق المتنازعة، تحدد نوع العمل من عمل سري الى سياسي وثقافي واجتماعي أو حتى عسكري.
- كيف يمكن للحزب القومي الاجتماعي الحفاظ على وجوده؟
بغض النظر عن الاستراتيجية التي تعتمدها قيادات الحزب، لا بد من النظر الى عدد من النقاط المرحلية التي قد تكون ضرورية لتحصن وجوده تحضيراً لما هو قادم، مثل:
- توحيد أجنحته الداخلية لضمان موقف قوي أمام النظام الجديد وتوحيد القراءة للتطورات السياسية والاستراتيجية وبناء خطط عمل موحدة حيالها.
- تفادي الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الشرع، على الأقل خلال المرحلة الانتقالية حتى تتضح صورة التغييرات القائمة، والتركيز على العمل السياسي والثقافي والمناورة الدبلوماسية لحماية الجسم الحزبي قدر الإمكان.
- المشاركة المشروطة في الحوار الوطني في حال تمت دعوته، لضمان عدم استخدامه كأداة شكلية لإعطاء مشروعية لحكم استبدادي جديد دون تأثير فعال، والتفاوض للحصول على تمثيل سياسي حقيقي.
- في حال ذهاب البلاد الى حرب أهلية أو قيام رفض لحكم الشرع في عدد من المناطق، يكون للحزب توجهات مناسبة للمساهمة في إمكانية المواجهة والتغيير، مع ما يرافق ذلك من مخاطر ومستلزمات وخطط.
********************************
الخاتمة: هل يستطيع أحمد الشرع تحقيق انتقال سياسي مستدام؟
🔹 نجاح الشرع يعتمد على إدارة التوازنات الداخلية والإقليمية والدولية بحذر شديد.
🔹 إذا فشل في تحقيق شرعية شعبية واسعة وتوافق على إجراءاته الدستورية، فإن حكمه قد يؤدي إلى حروب داخلية جديدة أو حتى تقسيم البلاد.
🔹 الحزب السوري القومي الاجتماعي يواجه معركة جديدة لتحديد مستقبله، بين الإقصاء أو الاندماج في النظام الجديد، أو معارضته أو مواجهته.
فهل سيكون هذا التحول بداية استقرار للشام، أم فصلًا جديدًا في تاريخ الفوضى والانقسامات؟
*رئيس مؤسسة سعادة الثقافية