نبضات القلق(قصة قصيرة)
والتفتت إليه باستغراب مستفسرة عن نظراته التي يحاول إخفاءها، فأطرق قليلاً ثم
قال بتردد:
– هناك أمر أخفيته عنك سنوات طويلة، وأعتقد أن الوقت قد حان لتعرفيه…
سألته من دون اكتراث:
– عمّ تتكلم؟
صوت التلفاز يعيق أفكاره ويمنع الكلمات الهائمة من أن تجد لها حيزاً جديداً في واقعهما الرتيب. فقال بهمس:
– هل تعدينني بأن تتفهمي ما سأقوله، وتحسني الظن بي؟
فقالت وعيناها منشغلتان في قصة الفيلم الذي لا تريد أن تفوته:
– ألا يؤجل هذا الأمر نصف ساعة ؟
– لا.
– مع أنك أجلته سنوات.
– نعم، وكان ذلك خطأً كبيراً.
فأطفأت التلفاز، واستدارت نحوه ببسمة ساخرة وقالت:
– هل أنت متزوج وتريد أن تبوح لي بسرك الذي عاش طويلاً؟
– لم أحب أحداً غيرك في حياتي.
وعلمت أن في سريرته شيئاً أخطر من تفاصيل حياتهما اليومية التي دامت تسع عشرة سنة دون حدوث أي خطير.
فقالت وقد رسم الفضول طريقه في ملامحها:
– تكلم. ما هو سرك؟
– هل ستتفهمين دوافعي؟
– لا أعلم حتى أسمع ما ستقوله.
تنهد طويلاً كأنه يستعد لإلقاء محاضرة لا بد أنها ستطول، وستفتح كلماتها أبواباً لن يكون من السهل إغلاقها بعد ذلك، ثم اتجه بنظراته نحو شباك الغرفة لعله يلتمس من الأفق جناحين يطير بهما مع النسيم المرتحل إلى حيث ينام القلب في حضن الأمان.
– لقد عاش حبي لك عقدين من الزمن، وكان صادقاً، قانعاً، سعيداً، لا يطمع في شيء… نسي الخوف الذي اعتراه في البداية، بل تناساه… طرد القلق من دربه بعد أن أصبحت صورة الخيال تختزل كل الأبعاد… اقتنع في رحلته مع الزمان رفيقاً لأنسك، يبارك الشمس التي تهمس الدفء في غمراتك، يعانق مطر السماء الذي يبلل خصلات شعرك، ويغني مع العصافير أناشيد عشق لعينيك… لكن… أفاق حبي فجأة بعد عقدين على نبضات القلق… القلق… القلق… كلمة، شعور، سيف يقطِّع من أحشائي… يتهمني … يسرقني… يدفعني نحو الحقيقة… والحقيقة سراب… أهرب منه فيتبعني، أغوص في أعماق نفسي فألقاه… وأسخر من نفسي، ألعنها…
وأشعل سيجارة نفث دخانها في أرجاء الغرفة كأنه يخرج آهاته من صدره المحترق.
– كنتما شابين صغيرين، والحب ينشد قصتكما أمام الجميع، يبارك السعادة التي تحضنكما، والأيام القليلة التي تفصلكما عن الرباط المقدس. ولمحتك فجأة في مكتبة الجامعة… كنت تقلّبين الصفحات بسرعة وكأنك تبحثين عن شيء لن تجدي له أثراً في ذاك الكتاب… وفي ذاك الكتاب وجدت نفسي… وجدت عمري الذي كان يتأرجح في السنين الخالية… وقررت أنك لن تكوني لغيري… وليذهب خطيبك إلى الجحيم… خطيبك الذي كان زميلي في الدراسة… ولم تكن مهمتي صعبة، فلقد كان ضعيفاً، جباناً، من السهل ترويعه. وساعدتني الحرب وظروفها في أن أهدده بالتعرض له ولعائلته إن لم يتركك ويترك المنطقة كلها ويرحل إلى الأبد. وقبل بسرعة… توسل إلي أن لا أؤذيه، وتنازل عن سني حبكما في لحظات خوفه… وانتزعت منه خاتم الخطوبة وجئت به إليك… وتعرفين تتمة القصة…
ولم تنبس بكلمة… كانت غارقة في خيالها البعيد الذي أعادها سنوات طويلة إلى الوراء، وأحداث لم تكن تسترجعها إلا نادراً، فجاءت لتصفع حاضرها، لتحرق أمنها، لتدمر كيانها. إن ما يقال الآن لا يمكن أن تستمر بعده أية حالة ركود.
وقال ونظراته تخترق عينيها:
– أعلم أن ما سأقوله لن يبرر ذنبي، وأن الاعتراف برذيلتي لن يخفف من وقع احتقارك لي، لكنك كنت أخطر من الذنوب، وأكبر من الألم الذي يعتصرني… أردت أن أمتلكك ولو كان الثمن قلقاً لا تهدأ الروح من جنون صراعاته… نعم، كان فوزي بك خسارة لنفسي، وها أنا أواجه ماضياً علمت دائماً أنه سيطاردني ليسرق أمناً صنعته يدي الأثيمة…
ونظرت إليه ملياً، وقالت بصوت خافت:
– ولماذا تخبرني الآن؟
– منذ أسبوع دخل لصوص إلى محل للمجوهرات، وسرقوا ما فيه بعد أن قتلوا صاحبه… قد يكون هذا الخبر عنواناً في صحيفة يقرأه المرء بسرعة دون أن يزعج نفسه بالبحث في التفاصيل، وقد يسقط عند كلماته، ويغرق في المتاهات التي صنعها، فيرتبك حاضره، ويتلاشى مستقبله، فيتخذ من قارعة الماضي البعيد ملجأً لهواجسه وصراعاته … كان خطيبك صاحب ذلك المحل…
ولم تتغير ملامحها، بل بقيت غارقة في وجومها، هائمة في عالمها، وغابت في سكون مريب… ومر الوقت طويلاً لم ينبس أي منهما بكلمة… للصمت أحياناً سطوة تسقط عند ساحتها الكلمات. أنفاس خافتة تحكي حكاية يوم جديد جاء من خلف السنين… والريبة تثير المكامن، والعتمة تحجب الرؤية، إلا من سيجارته التي تخبو وتضيء مع الأفكار الشاحبة… ورن التلفون فجاة، نداء يحطم السكون، يبدد هدأة الليل، يفتح للواقع باباً جديداً، ثم يغلق بعد حين… وقامت عن مقعدها، واتجهت نحو غرفة النوم، ولم يكن النوم مقصدها، ولا الهروب غايتها، بل عودة إلى مكان في حنايا النفس لتنفض عنه غبار الغفلة، وتنير ساحته التي أطفأتها بالألم… بالتناسي… بالحزن الذي أبى أن يسقط دموعاً على وجنتي الغدر والخيانة… لقد ظلمت حمزة، كما ظلمه زوجها… لم يتخلَّ حمزة عنها… لم يهجرها… لم يتوقف عن حبها… ولكن… ما هي طبيعة المشاعر التي تعتريها في هذه اللحظات؟ هل هي سعيدة لإعلان براءة حمزة؟ هل هي حزينة لموته؟ هل تحن إليه وإلى حب خنقته بيديها وألقته جثة هامدة في بؤرة النسيان ؟ هل تكره زوجها؟ هل تحتقره؟ إنها مشاعر متناقضة، صارخة، خافتة، تتأوه في فراغات العدم، وترقص على ترانيم الوجود… والليل مظلم شاحب… هادئ دافئ… تنام النفوس ولا تنام… لا مقاييس تحدد إدراكها، ولا نقطة انطلاق… والآتي من خلف السويعات مريب…
لم ترد أن تضيء غرفتها، فالنور قد يفضح مكامنها، يربك حاضرها، يخفف من ألمها، من قال إنها تهرب من آهات الألم؟
أحبت زوجها دون عناء، وكرهت حمزة دون عناء… لقد نسجت مشاعر الحب والكره ثوباً واحداً لبسته بقوة وإصرار… ربما انتقمت لكبريائها، فاختارت زوجها طريقاً للانتقام… ونجحت في دفن ذكرى حمزة، وإحياء مشاعر جديدة لرجل آخر، يستحق أن تهبه حياتها… إلى أن جاء هذا اليوم ليحطم كل شيء.
إنها ترى طيف حمزة ماثلاً أمامها، بقامته القصيرة التي لا تعيبه، والجسم الممتلئ بلا كرش، ووجهه الكبير الذي يحمل وجنتين مكتنزتين، ويعلوه جبين واسع، وقد امتد إلى صلعته الناصعة، وشاربيه اللذين رسمت شعيراته بعناية… وعند عينيه تأسرها الذكريات… كأنهما في هذه اللحظات توجهان اللوم إليها ، تدفعان بها إلى سرداب أكثر ظلاماً من روحها التائهة، تلفحانها بنار الخيانة… وللخيانة أبواب كثيرة، لكنها تفضي جميعاً إلى مستنقع آسن… ولكن…
هل كانت خائنة؟ هل كانت ظالمة؟ هل كانت الجلاد وهي تتلقى السياط؟ لقد ظُلم حمزة، لكنها لم تظلمه، وأحرق نار حبهما، لكن قلبها كان أكثر من عانى الألم… لقد رزحت سنة كاملة تحت وقع المأساة، طريدة المهانة، تنشد الانتقام في كل لحظة، وتهوي فريسة للانتقام… وأمضت ستة أسابيع في المستشفى، بعد انقطاعها عن الأكل والنوم، واستطاع الأطباء الحفاظ على حياتها، لكنهم لم يستطيعوا إنقاذها من صراعات نفسها، وتيه روحها، وغيابها عن ما حولها، ورفضها كل صور الواقع أمامها…
إن ما سهل الأمر على حمزة أنه عرف الحقيقة، الخديعة، المؤامرة، لكنها عاشت الخيانة غافلة، تائهة، تثيرها التساؤلات، ويربكها المجهول… ربما حاول أن ينساها، ربما نسيها فعلاً، لكن حبها له تحول كرها، غضباً، ألماً لا يستكين، وحاولت أن تنساه، ونجحت، لكنها لم تنس تلك المشاعر التي تجيش في قلبها الجريح… قد تنسى المرأة حبها لرجل تركته، لكنها لا تنسى بغضها لرجل تركها…
فما حالها اليوم وقد مات ذلك البغض الذي عاش في كيانها سنوات؟ هل استعاد قلبها حب حمزة من جديد؟ هل أحبت زوجها من قبل، أم أنها اتكأت على مشاعر الحب لتتوقى صفعة الغدر القاسية؟
يبدو أن هول المفاجأة أعاد لها ذكرى حمزة، فنسيت في هذه الساعات حقارة زوجها. لم يتلاعب بعواطفها فحسب، بل تلاعب بمصيرها، بحياتها، واستطاع أن يغير بوصلة وجودها وينقلها من ضفة إلى أخرى، من حقيقة إلى أوهام، من عالم اختارت واقعه، إلى سراب اختار أشباحه، وسيّرها إلى حيث يريد بعد أن أفقدها وعيها وإدراكها… يا إلهي… كيف ستعود إلى عالمها من جديد؟ كيف ستحرق السنوات الماضية وتذرو رمادها تحت قدميها؟ هل فات الأوان؟ هل ضاعت السنون قبل أن تجد نفسها الهائمة؟ لماذا كشف لها ذلك السر الرهيب؟ كانت راضية في عيشها مع زوج وولدين يملأون كل أيامها، تنتظر الآتي بحماسة، وتراهن في أكثر الأحيان على النجاح، وتكسب الرهان. كيف ستعيش الحاضر بلا ترقب، بلا أمل، بلا رهان على ما يحمله الآتي من الأيام؟ لم يعد لذلك أي معنى… لقد سقطت كل الحقائق في بؤرة الخيبة السحيقة، ومن سيطرت أشباح الخيبة على حياته، لا يترقب الآتي، بل يغوص في صراعات الجنون، ويطلب الموت ولا يموت…
ولن تقبل أن تكون ضحيته مرة أخرى… لن تذعن لمصيرها الذي كتب سطوره بيديه الآثمتين، ستثور هذه المرة، وتدك كل الحصون، لم يعد للحاضر معنى يؤنس وجودها، لم يعد لولديها ذاك البريق الذي يرسلها نحو عالم الأحلام الهنيئة… هما مثل كل شيء في حياتها، وكل لحظة في زمانها، صنيعة خطته الحقيرة… إن الغضب يسيطر على حواسها، يأسرها، يفقدها الصواب… هل هو نداء للانتقام من زوجها؟ هل تطعنه بسكين يسكته إلى الأبد؟ هل تحطم رأسه بتلك المطرقة الحديدية التي ألقيت في أحد زوايا خزائن المطبخ المنسية، ولم تُستعمل قط؟ هل يسكت قتله غضبها؟ هل قضاء ما تبقى من حياتها في السجن يشفي غليلها؟ وما البديل؟ هل تكمل حياتها في طريق ضاعت معالمه؟ ما أصعب الظلم عندما يكون المرء ضعيفاً، وتكون العدالة نائمة، والحياة تمضي دون أن تنظر إليه ولو بإشفاق.
واستحال الغضب دموعاً تسيل فوق وجنتيها، لماذا الدموع؟ لماذا البكاء؟ لماذا الاستكانة؟ أما آن لقلبها المتعب أن ينام؟ أما آن لروحها الضالة من منارة حب تهديها إلى سواء السبيل؟ ضعيفة… ضعيفة… في عالم يملأه الأوغاد، وما من ناصر يقف ولو صدفة على قارعة الطريق…
واستقبل الصباح مؤرقيْن عاشا الليل صراعات تظهر آثارها في عيني كل منهما. فنظر إليها بحزن لعله يقرأ في ملامحها حالتها الجديدة بعد ما قيل أمس.
وقالت بشيء من الحزم:
– لم أنم طوال الليل، وفكرت كثيراً بما حدث، كان يمكن أن أطلب الطلاق وينتهي كل شيء بيننا، لكني رأيت أن أمنح حياتنا فرصة تمكنني من أن أنسى هول ما فعلت.
فقال بتأثر:
– لن تندمي، أعدك أني سأكفر عن خطئي الذي ارتكبته حباً بك، وطمعاً في أن أعيش حياتي معك ولكن…
فقاطعته قائلة:
– هناك أمران يجب أن تلتزم بهما لكي أحاول نسيان كل شيء.
– أنا مستعد لأي شيء يريحك.
– أولاً، يجب أن لا يعلم أحد بهذه القصة، فإن فيها مهانة كبيرة لي.
– موافق.
– ثانياً، عليك أن تمهلني عدة أشهر لكي أتمالك نفسي وأعود إلى سابق عهدي.
– ماذا تعنين؟ هل ستتركينني؟
– بل سأبقى في بيتك، مع ولديك، أستقبل ضيوفك، وأحضر لك طعامك، وأقوم بكل واجباتي المنزلية، ولكن لا تطلب أكثر من ذلك. لا تسألني عندما تغمرنا الوحدة شيئاً، لا كلمة حب، لا لمسة عطف، ولا حتى أذناً صاغية. لن يطول الأمر، أشهر قليلة فقط، ربما أربعة، ربما أقل، وسيزيل الزمان مشاعر الألم من نفسي، والندم من نفسك، وعندها سوف أرتاح، وترتاح، أعدك بذلك…
فقال لها بحذر:
– وكأنك لا زلت تحبينه؟
فابتسمت بسخرية وقالت:
– لم يعد لذلك الحب مكان أو معنى، بعد أن سرقتَ طهارته، وسرق الموت كينونته، دعك من ذلك، وإياك أن تتطرق لهذا الأمر مجدداً…
وتوالت الأيام لا تحمل جديداً في تفاصيلها، والتزم الزوج بما وعد بانتظار عودة حبيبته لتعيد للحياة سعادتها ثانية.
ودق جرس البيت عند الظهيرة، كأنه عويل من خلف الحجب السوداء، فسارت بخطى مترددة، وبدن يرتعش، ورغبة قاهرة في البكاء، كأنها تستعيد لحظات خالية مرعبة، وأطياف أشباح ستنقض عليها… إن ضوء الغرفة شاحب، والصمت مريب، وفوق الطاولة أوراق مبعثرة، وملعقة سقطت على الأرض توسوس لها. كل ما حولها يصرخ في أذنيها، يثير مكامنها، يدفعها نحو الهاوية… وكأن الباب يقترب منها، وهي جامدة لا يمكنها الحراك، والجدران تتحرك، تدور من حولها، والغرفة تدور، ورأسها يدور، والأصوات ترتفع أكثر، تصم أذنيها، تشل حواسها، ترسلها إلى عالم آخر… وفتحت الباب، فظهر من خلفه رجلان وامرأة، عرفت أنهم زملاء زوجها… وكانت الرسالة بعد النظرات المترددة، والكلمات الخائفة:
لقد مات زوجك إثر نوبية قلبية…
لقد صدقت زوجها الوعد، ولم يمض أكثر من أربعة شهور، وها هي الآن تضمد جراحها النازفة، وتمحو صورة الغدر التي أعمت بصيرتها منذ ذلك اليوم… ومنذ ذلك اليوم، كان للفطور زمنه المحدد، وطعمه الخاص، ولفنجان القهوة، فنجان القهوة بالذات، وهو يسافر محلقاً من مكانه على الطاولة، إلى شفتيه السارحتين اللتين ترتشفان شراب السم، ثم يعود إلى الطاولة بانتظار رحلة أخرى، ورشفة أخرى، ويوم آخر ينبئ عن اقتراب الموعد المرتقب… والكلمات مقتضبة، والنظرات بعيدة، تخاف أن تفصح عن ما تراه في الآتي القريب…
حكاية لا يمكن إلا أن تعيش في الخفاء…
لكنها حكاية فتحت للواقع أبواباً جديدة، وسراديب مظلمة، وأشباحاً تلعن الوجود، فنقلت إلى المستشفى بعد انقطاعها عن الأكل والنوم، واستطاع الأطباء الحفاظ على حياتها، لكنهم لم يستطيعوا إنقاذها من صراعات نفسها، وتيه روحها، وغيابها عن ما حولها، ورفضها كل صور الواقع أمامها، ولم يكن الحل إلا في مصح للأمراض العقلية، لا تزال تعيش فيه إلى الآن.