بقلم د.عماد عكوش – الحوارنيوز
منذ بداية الأزمة المالية التي عصفت بلبنان في أواخر عام 2019، أصبح المودعون أحد أبرز المتضررين من هذه الكارثة الاقتصادية. وقد تفاقمت معاناتهم مع انهيار سعر صرف الليرة، واحتجاز البنوك لأموالهم بشكل غير قانوني أو تعسفي، ما أدى إلى تآكل قيمة الودائع بشكل كبير. ورغم المحاولات العديدة لاحتواء الأزمة، تبقى الحلول القائمة محدودة وغير كافية للتخفيف من معاناة المودعين الذين باتوا يواجهون أزمات معيشية خانقة.
ان أساس مشكلة المودعين ينبع من اعتماد البنوك اللبنانية على ودائع المودعين لتمويل الدولة من خلال السندات الحكومية، كما ان طمع المصارف في معدلات الفوائد المرتفعة التي عرضها مصرف لبنان عليها دفعها الى زيادة توظيفاته لدى المصرف المركزي ، وعندما بدأت الدولة بالتعثر عن السداد، وجدت البنوك نفسها في وضع مالي حرج غير قادر على الوفاء بالالتزامات تجاه المودعين .
هذه السياسات المالية والنقدية الخاطئة التي أعتمدتها المصارف التجارية ومصرف لبنان تسببت ، إلى جانب الفساد وسوء الإدارة ، في خلق عجز هائل في ميزانيات الدولة وعدم توزيع المخاطر وفق المعايير الدولية، ولا سيما معايير بازل والتي تفرض على المصارف التجارية توزيع مخاطر التوظيفات بشكل يحمي هذه الودائع ، أدى إلى أزمة حادة في القطاع المصرفي ، وقد دفع هذا الوضع بالبنوك إلى تجميد أموال المودعين وتقنين سحبها، وبهذا باتت ودائعهم “أسيرة” الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تمر بها البلاد.
هذا وقدرت حجم الودائع قبل الازمة بحوالي 170 مليار دولار وتراجعت اليوم بعد الخسائر الكبيرة التي منيت بها الى حدود 100 مليار دولار. وهذه الخسائر التي تكبدها المودعون ناتجة عن عملية تهريب لجزء منها من قبل السياسيين والنافذين ، واقفال الكثير من التسليفات على سعر الدولار الرسمي او عبر شراء شيكات من السوق، وكانت هذه التسليفات قبل الازمة تعادل 57 مليار دولار بينما اليوم لا تتجاوز 7 مليار دولار . كما يعود الى تراجع القيمة الحقيقية للودائع بالليرة اللبنانية والتي كانت تمثل حوالي 20 بالمئة من مجموع الودائع قبل الازمة، وهي لا تمثل اليوم اكثر من 4 بالمئة .
لم تقتصر الخسائر على انخفاض القيمة الفعلية للودائع، بل تضمنت أيضًا عدم القدرة على الاستفادة من أموالهم بسبب القيود الصارمة على السحوبات والتحويلات. وهذا الأمر ألحق ضررًا كبيرًا بالمودعين، خاصة الصغار منهم، الذين أصبحوا يعانون من فقدان القدرة الشرائية الأساسية لتلبية احتياجاتهم اليومية.
وفي محاولة للتخفيف من الأزمة ، وفي غياب المعالجات الجذرية من قبل الحكومة والمجلس النيابي ، أصدر مصرف لبنان عددًا من التعاميم ، أبرزها التعميم 158 والتعميم 151 ، واللذين سمحا للمودعين بسحب جزء من ودائعهم بالدولار وفق التعميم 158 وبالليرة اللبنانية وفق التعميم 151 ، لكن على أساس أسعار صرف منخفضة مقارنة بالسوق السوداء ، ما أدى إلى خسارة إضافية في قيمة الودائع ، ثم جاء التعميم 166 الذي وسع من عملية الاستفادة من التعميم 158 وسمح بزيادة عدد السحوبات بالدولار، ولكن ضمن شروط محددة، ما جعله غير فعال بما يكفي لمعالجة مشكلة المودعين بشكل حقيقي.
رغم هذه الإجراءات، لا تزال المشكلة قائمة، حيث لم تستطع هذه التعاميم تقديم حلول جذرية أو تعويض المودعين عن خسائرهم ، وبحسب التقديرات ، لم يستفد منها سوى عدد محدود من المودعين ، إذ إن الكثيرين منهم لم يجدوا هذه الإجراءات مجدية على الصعيد المالي أو الاقتصادي.
بالعودة الى عدد المودعين فقد كان في النظام المصرفي اللبناني يقدر بنحو 2.43 مليون مودع ، لكن هذا العدد تقلص بشكل كبير مع انهيار الثقة بالنظام المالي والمصرفي . اليوم ، يُقدر أن العديد من المودعين باتوا يتجنبون التعامل مع البنوك اللبنانية ، ويفضلون الاحتفاظ بمدخراتهم نقدًا خارج النظام المصرفي ، خاصة مع عدم وجود أي مؤشرات على عودة الاستقرار في المدى القريب ، وقد انخفض عدد المودعين مع حالة اقفال الكثير من الحسابات الى حدود 1.3 مليون حساب ، وهذا الانخفاض ناتج عن عدة أسباب منها :
- اقفال حسابات الضمانات النقدية مقابل تسهيلات بعد اقفال حسابات التسهيلات بشكل كبير .
- اقفال حسابات التوطين بسبب عدم قبول المؤسسات والشركات التسديد الا من حسابات “فريش” .
- اقفال كل الحسابات التي تقل عن ثلاثة الاف دولار اميريكي بعد دفع مصرف لبنان لهذه الحسابات وفق ترتيب وضعه لهذه الغاية .
- اقفال معظم الحسابات التي تقل عن 15 الف دولار اميريكي بعد تسديد كل الرصيد تقريبا وفق التعميم 158 والتعميم 151 .
أما بالنسبة للكلفة فتشير التقديرات إلى أن كلفة التعميمين 158 و 161 بلغت خلال العام 2023 حوالي 2.3 مليار دولار موزعة مناصفة ما بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. ويبدو ان تطبيق هذه التعاميم لم يؤثر على حجم الاحتياطي لدى مصرف لبنان لا بل زادت هذه الاحتياطات بأكثر من ملياري دولار . المشكلة الاساسية هي في عدم الشفافية من قبل المصارف التجارية ومصرف لبنان بالنسبة لعدد المودعين الذين يستفيدون اليوم من تطبيق التعميم 158 ، فقد بلغ هذا العدد وفق بعض المصادر في بداية التطبيق حوالي 190 الف مودع ، ووصل اليوم وفق اخر احصاءات الى حدود 95 الف حسابات ما يخفض عدد المستفيدين، وبالتالي كلفة تطبيق هذا التعميم انخفضت المفترض الى النصف ما يساعد على توسيع عدد المستفيدين وزيادة قيمة السحوبات الى الضعف بحد أدنى،من دون ان يؤثر على احتياطي مصرف لبنان، لا بل هذا الامر ممكن ان يعزز حركة الاستهلاك في لبنان لأن هذه السحوبات لن تستحدم في عملية الادخار بل في عملية الاستهلاك وبالتالي المزيد من الضرائب والرسوم .
هذا ورغم محاولات الجهات الرسمية لإصدار قوانين جديدة، إلا أن التحديات السياسية والاقتصادية تحول دون إقرار تشريعات فعالة لحل الأزمة المصرفية بشكل جذري ، وهناك اقتراحات لإصدار قانون “الكابيتال كونترول” الذي ينظم حركة الأموال في البنوك ، قانون إعادة هيكلة الدين العام ، وقانون اعادة هيكلة المصارف ، لكن هذه القوانين تواجه عقبات سياسية ، وبالتالي ما لم تتوفر إرادة سياسية حقيقية ، تبقى فرص إصدار قوانين فاعلة محدودة.
بانتظار هذه الحلول الجذرية لا يمكن ترك المودع الى مصيره، ولا بد من وضع حلول مؤقتة لمعالجة الحالة الاجتماعية التي وصل اليها المودع ولتوفير الحد الأدنى من المعيشة لهم ، ومن هذه المقترحات :
1. زيادة سقف السحوبات بالدولار الحقيقي للمودعين الصغار لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
2. تعديل سعر الصرف في التعميم 151 ليعكس الواقع السوقي، وبالتالي تقليل خسائر المودعين.
3. السماح بدفع جزء من ضرائب ورسوم المودعين وبشكل شخصي عبر ودائعهم وفق سعر السوق.
4. إطلاق برامج حماية اجتماعية تستهدف الفئات الأكثر تضررًا من الأزمة المصرفية، بتمويل جزئي من الدول المانحة.
5. السماح بتحويل مبالغ محددة للخارج لأسباب اقتصادية مثل الطبابة ، الدراسة .
هذه الحلول تتطلب طبعا تمويلًا كبيرًا، والأهم تتطلب استقرارا سياسيا وأمنيا، وقد لا تتوفر هذه العوامل بسهولة في ظل الوضع الحالي، لكن مع وقف اطلاق النار وانتخاب رئيس الجمهورية بالتأكيد يمكن توفر هذه الشروط. وأي تطبيق بشكل عشوائي قد يؤدي إلى استنزاف ما تبقى من احتياطات مصرف لبنان ، ما يمكن أن يفاقم العجز في الموازنة وانخفاض في الإحتياطي الموجود لدى مصرف لبنان ، ويزيد الضغط على سعر الصرف . من جهة أخرى ، قد تؤدي هذه الحلول إلى ارتفاع التضخم وزيادة أسعار السلع الأساسية إذا لم تُدار بحذر.
رغم الجهود المبذولة لتخفيف أزمة المودعين ، تبقى الحلول المؤقتة غير كافية لتحقيق الاستقرار النقدي أو تأمين الحياة الكريمة للمودعين. بدون إصلاحات جذرية وإرادة سياسية قوية، ستظل الأزمة قائمة وستستمر تأثيراتها السلبية على الاقتصاد اللبناني.