الدولة والنازحون.. ودولة المواطنة (غازي قانصو)
بقلم: د. غازي قانصو
من المعلوم أن الوضع اللبناني الداخلي تسوده أجواء غير حسنة، على قاعدة الاهتمام غير الكافي باحتياجات النازحين من قبل السلطة الحكومية وأجهزتها الإدارية، حتى وصل الحال، الآن، إلى الاتهام بأن كميات كبيرة من المساعدات قد وصلت إلى لبنان، ولكنها تبخرت، واختفت. ويكفي مراجعة الصحافة وتحديدًا الجرائد حتى نرى حجم الاتهام. فإذا كان الاتهام بالتضييع صحيحًا فهذه كارثة، أو أن المسألة سوء إدارة وهذه كارثة أخرى.
ويلي ذلك سوء التعاطي مع النازحين المنتزعين من بلداتهم وبيوتاتهم العزيزة التي هي كبيوت غيرهم من اللبنانيين الأعزاء في أرجاء الوطن اللبناني كله، حيث يراد انتزاعه من مآويهم الحالية بحجة التدريس، وهذا مطلب صحيح، ولكن تنعدم منه كل الصحة عندما يكون هذا المطلب حاضرًا وملحًا قبل أن تؤمن الدولة المصونة السكن اللائق للنازحين، وهذه كارثة أكبر.
من الناحية الفكرية الأساسية التأسيسية، إننا ممن يطرح “دولة المواطنة” في لبنان، التي ينادي بها دومًا سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، كما ينادي بها نخبة كبيرة من مثقفي لبنان من مسيحييه ومسلميه، وكذلك ينظر لها مثقفون عالميون على المستوى العالمي. وهي تعني ببساطة أن الدولة هدفها الأول والأخير المواطن، وذلك بتأمين كافة حقوقه المشروعة، بشكل عادل وكافٍ، بغض النظر عن أي اعتبار ديني أو طائفي أو سياسي أو أي اعتبار آخر، وبالتالي يكون جميع المواطنين متساوين أمام القانون، من جهة الواجبات التي عليهم، والحقوق التي لهم.
وبناءً على ذلك، “فإن معناها السياسي هو أنها تشير إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها، والالتزامات التي تفرضها عليه؛ كما تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه”. وإننا نرى أن “دولة المواطنة” تكون عبر تحقيق النظام العادل المنصف، الاجتماعي بما يعني “دولة الخدمة الاجتماعية”، وبسيادة القانون، الذي يحقق احترام المجتمع الأهلي كما يحقق سيادة الدولة وعدالتها وقدرتها، و تطبيقه على الجميع دون تمييز، “وبمشاركة الجميع في صنع القرار السيد المستقل”، وفي نماء الوطن وعزته، وخصوصًا في مجال تحقيق الحقوق الوطنية؛ السياسية الاقتصادية والاجتماعية لكل شرائح المجتمع.
نعود إلى ما كنا قد بدأنا به، فإني أتوجه بالشكر الجزيل والتحية الكبرى إلى كل الذين استضافوا إخوانهم المنتزعين من أرض وطنهم النازحين في وطنهم، حيث القسم الأكبر من الشعب اللبناني استضاف هؤلاء بأفضل حال من الضيافة في مناطق كثيرة؛ عكار، والشمال، وزغرتا وبشري، والبترون، وجبيل، وكسروان، والمتن، وجونية، وبيروت، والجبل بكل مناطقه، وإقليم الخروب، وصيدا، وشرق صيدا، وجزين، وزحلة، ودير الأحمر، وما إلى ذلك من مناطق كثيرة في لبنان، حيث عبر أهلنا اللبنانيون الغيارى بأفضل تعبير عن الضيافة.
ولا نقف عند بعض الحالات التي حصلت هنا وهناك، وإن كانت تسؤونا هذه الممارسات، غير أنها كحبة الملح في نهر كبير جارٍ من الماء العذب، لن يتغير طعمه. نحيي أهلنا، ونشد على أيديهم، فنعبر عن تقديرنا لكل عامل مجتهد في هذا السياق؛ الأفراد، الجمعيات، الأطباء، المسعفين، وكل الساعين بخدمة النازحين، ونرى أن السبل مفتوحة أمام أهل الوطن لمزيد من التعاون والنماء، إذا سادت القيم الوطنية الحقيقية، والإخلاص لوطننا، بدلًا من الأغراض الطائفية والغايات الشخصية التي تفرق بين المواطنين.
إن السلطة مسؤولة أن تؤدي واجباتها تجاه المواطنين في مجالات الإيواء، والإغاثة، والعلاج وكافة شؤون الاهتمام، قبل الشروع في أي تدابير تجاه النازحين وخاصة فيما يتعلق بالسكن اللائق وكافة احتياجات العيش الكريم، حتى تضع الحرب أوزارها، وحتى ما بعد ذلك أمام مشاهد البلدات المدمرة.
ولا بد من نبذ كل خطاب متعصب يصدر عن أشخاص، مهما كانت صفاتهم، فكل موقف متعصب يولد غيره، فأين سيكون الوطن إذا استمرت هذه الحلقة المفرغة؟ فلنعْل صوت الحكمة والمحبة والرحمة، ونختار ما يجمع لا ما يفرق، ونستحضر صوت الله لا وساوس الشيطان، وصوت التآخي لا الكراهية.
أيها المواطنون الأعزاء، إذا كان المقصود عائلة من عائلات لبنان بعينها، أن تستكين، ولا نظن ذلك، ولا نريد أن نظن أبدًا بذلك، فاسمحوا لي أن أذكر بما يلي: نحن أبناء سماحة الإمام السيد موسى الصدر الذي رفض الحرب الأهلية ورفض الاقتتال مع أبناء الوطن، وشدد على السلم الأهلي كأعظم وجوه المواجهة للعدو، وكرس مبادئ الوحدة الوطنية، والتعايش المشترك. وعلى هذا النهج سار كلٌ من سماحة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وسماحة الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان، ويواصل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى اليوم، برعاية سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب، حمل هذه الراية الوطنية الجامعة، والدعوة إلى قيام “دولة المواطنة”، الدولة العادلة القادرة، التي تؤمن لجميع أبنائها كامل حقوقهم بغض النظر عن أي اعتبارات فئوية، ويؤدون واجباتهم تجاه دولتهم ووطنهم. وبهذا نحفظ دور “لبنان الرسالة” كما أسماه البابا بولس، ونضمن استمراره “منبرًا حضاريًّا” كما أسماه العلامة الخطيب، يُغرس في الأجيال روح التعايش السلمي، فيصدر للعالم رسالة نموذجية في التآخي والانسجام في وطنٍ واحدٍ موحدّ ومجتمعٍ متنوعٍ متعددٍ.
لقد جسدت القمة الروحية التي انعقدت مؤخرًا في بكركي دعوة صادقة للتآلف والتعاون لحماية الوطن وبناء الدولة العادلة القادرة، بإرادة لبنانية جامعة، التي لطالما كانت غاية كبرى منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية.
لذا، فإننا نحترم الجميع، ولا نتجاوز على أحد، بل إن أيدينا كانت ممدودة ولا تزال كذلك إلى كل أحد في هذا الوطن الجميل، الأصيل العريق، الصغير بمساحته، الإنساني بدوره، وستبقى أيادينا ممدودة، بكل إبائها وعزتها، لحفظ وطننا الذي نحن فيه سواء، مواطنون متساوون، على مبدأ “لبنان وطن نهائي لجميع بنيه”، وعلى الجميع احترام الجميع بلا تفرقة. فنحن إخوة في الوطن، إخوة في الإنسانية، لا نبغي سوى خدمة الإنسان في وطنه، فتلك عبادة للرحمن، الذي هو إله السماوات والأرض، سيد الأرزاق. فمن أراد أن يكون مع الله، فليؤاخ أخاه، وليحسن أفعاله وأقواله، أقول هذا انطلاقًا من العقل والوجدان، ومن الحب والتحنان، فذلك هو السبيل إلى إعمار الأوطان وإسعاد الإنسان.
رحم الله الشهداء الأبرار، ونصر الوطن العزيز ببنيه الأخيار على عدوه الهمجي، وحمى الله لبنان.
مع خالص التحيات،
د. غازي منير قانصو
الأربعاء، 6-11-2024