الحوارنيوز – محليات
كتبت منى سكرية في صحيفة الأخبار اليوم عن رحيل الكاتب الياس خوري:
رحل الياس خوري الأديب، الروائي اللبناني المولد، الفلسطيني الولادة بقراره، الأممي، المثقف الذي لم يتوان لحظة عن خوض غمار حب فلسطين والدفاع عن قضية شعبها المسفوك دمه على أيدي مشروع صهيوني/ تلمودي/ عنصري/ إحلالي/ استيطاني على أرض فلسطين وبقوة ارتكابه المجازر، وحرب الإبادة التي ينفذها على أهل غزة منذ حوالى العام. حتى بات من التخمين بأن الياس فلسطيني الجذور، التهمة الأثيرة على قلب ابن الأشرفية وتلميذ المطران جورج خضر بلغة الضاد وحضارة العروبة وعاصمتها القدس، ذاك الفدائي الذي امتشق طريق الأغوار بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية وكفاحها المسلّح، فامتطى راية السلاح، مع القلم، ولم يهدأ من حينها.
فذّ الأفكار في حبه لفلسطين، فكتب، وأبدع في أعماله الروائية عن ترابها، وحجارتها، وزيتونها، وشتات أهلها، وعن المقاومة وشهدائها، وعن مخيماتها، وإن اقتضى الأمر نزاعاً في المبنى الواحد في مكاتب العمل مع زملاء المهنة، وعن الأسرى في سجون الاحتلال، وقد خصّص لأقلامهم/ أحلامهم صفحات من مجلة «دراسات فلسطينية» التي كان مدير تحريرها بعدما أقالته بضع كلمات مكتوبة على وريقة متروكة على استعلامات صحيفة يومية لبنانية تصدر منذ أكثر من ثمانين عاماً. كان شديد المرارة لتلك الواقعة كما رأيته وتحادثنا.
إنها فلسطين، المظلومة بجلاديها الصهاينة، ومن ذوي القربى، ولم يرحمهم الياس من سياط قلمه. كذلك، لم تسكته حالة الطوارئ وقوانينها عندما فرضت على الإعلام التزام الخرس، على إثر اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 ووصولها إلى بيروت.
من يذكر مقالات الياس خوري المتحدية لنظام «الكتائب» الذي أقيم في بعبدا يومها، وللاحتلال الإسرائيلي لأرض الجنوب وبقاعه الغربي والجبل. كان زمن الاحتلال، فكتب الياس بلا جزع عن قانون الطوارئ وعَسَس حكم أمين الجميل يومها، وعيون عملاء النظام والاحتلال على السوية.
كتب سلسلة مقالات ومواقف واشتباكاً علنياً تحت عنوان «زمن الاحتلال». وخلّد حكاية معتقل أنصار الذي أقامه الاحتلال الإسرائيلي على قطعة من أرض الجنوب فور احتلاله عام 1982. وروى الحكايات عنهم ولهم، ولنا، وللتاريخ. كان هدف اغتيال يومي إلى جانب الشهيد ناجي العلي، وقد كان قلم الراحل طلال سلمان متيقظاً لكتابة نص نعي الياس أو ناجي أو الاثنين معاً في تلك المدة على ما كان يمازحهما به.
خاض الياس خوري حروبه الأدبية/ السياسية حتى الثمالة، وعبّ من حكايات الجرح الفلسطيني وكل بقعة خضعت لاحتلال إسرائيلي، فأثرى الزمن بتدويناته حول ما جرى. وسَكِرَ ابتهاجاً بالتحرير عام 2000، وأعاده انتصار تموز 2006 بجنون العاشق متجولاً بين قرى الجنوب وحدودها مع فلسطين المحتلة بعد «ضلال» طرأ على مواقفه «اليساروية» قبل ذاك العام، رافعاً علامة النصر لكل محطة أنارت ضوءاً على طريق تحرير فلسطين. كان يهزّه مشهد الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني، وكان أمميّاً بتعاطفه مع كل شعب مظلوم.
تعرّفت إلى الياس خوري يوم دخولي مبنى جريدة «السفير» كواحدة من الصحافيين الجدد فيها في بداية عام 1986. لم أكن مجهولة بالنسبة إليه، وقد كان يتابعني «كفدائية» أقتحم أرض الجنوب حيث الاحتلال الإسرائيلي. كانت هذه بطاقة دخولي إلى صداقة الياس، وتقديره لي، ولتفاهماتنا في الكثير من المواقف، ولتباعدنا في بعضها، لكنها لم تترك للزعل مكان. هذه قيمة الياس خوري الإنسان/ المُحَاوِر/ المتواضع على رفعة ومسافة، وربما بقساوة يراها بعضهم فيه، العميق/البسيط لمعنى الحياة. صرنا صديقي مهنة. وقد نالني منه شرف تقديمه كتابي «حاورتهم منى سكرية» (العام 1997) بأدق تفاصيل بحثه واكتشافه للحس الصحافي الذي بداخلي. كتب في المقدمة وأختار منها بعض الفقرات: يقول: «هل للكلمات ذاكرة؟ أم أن الكلمات هي الذاكرة؟ كنت وأنا أقرأ كتاب منى سكرية، أرى أمامي هذه التواريخ التي هي جزء من تاريخنا، وكأنها تجتمع، تفترق، تتشظى، تلتحم، ولكنها لا تندثر…».
ويكمل: «الصحافي ليس مؤرخاً، ولا روائياً ولا إعلاميّاً. منى سكرية في كتابها واحدة من هؤلاء. عرفناها منذ الثمانينيات، وهي تركض خلف الحقائق، تجمع أجزاء الواقع، تبحث عن التجربة الحية لأيام الموت في لبنان. .كانت صوتاً يبحث عن الصوت في التجربة.. الصحافي لا خيار له، إما أن يذهب إلى صعوباتها، أو ينتهي إعلاميّاً. ومنى سكرية حاولت وجعلت كلماتها تلتمع بنبض الحياة، وقدّمت لها هذا الكتاب الممتع الذي يسمح لنا بأن نرى في مراياه وأصواته جزءاً من حقيقتنا وتاريخنا». (من مقدمة الكتاب بقلمه).
أما يوم الهدهد وجولته فوق أرض فلسطين، فقد أيقظ ذاك الوثائقي روح الياس وهو تحت العلاج، فكتب مقالته وعنْوَنَها «هدهد بيروت في حيفا»، وأخرج من قلبه المتعب كل الفرح والابتهاج، مستعيناً بقراءته لأبعادها الإستراتيجية، فختمها بالقول: «لذا، صار التهديد الحقيقي هو تهديد نصر الله لإسرائيل بإعادتها إلى العصر الحجري بعدما أعاد الهدهد كتابة نصه بالعربية والإنكليزية والعبرية موفّراً عبء الترجمة» (من مقالته المنشورة في جريدة «القدس العربي»).
سيكون الياس خوري محط انقسام، ولا بد، ولا ضير في ذلك، طالما أنه من أهل الثقافة المشتبكين لا الصامتين، وطالما أنه من المنتسبين روحاً وقلماً وحباً لأصعب قضية في تاريخ البشرية قضية فلسطين. سيناله سهام النقد لمواقف تجاوز فيها المألوف من مواقفه المعتادة، ظنّاً منهم أنها تجاوزات للخط الأحمر، لكن في عتابي له ذات مرة صدّني بالتذكير بمواقف آخرين تمت مسامحتهم رغم تجاوزهم للخطوط الحمر…
في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ولِد الياس خوري مجدداً، في واحد من انبعاثه من الرماد، من رمادات متعددة، من طوفان اجتاح نسيج روحه، فأحيا الأمل بيقينه أن فلسطين محرّرة لا محال.
وداعاً الياس الصديق العزيز المقيم على نقاش ونقد وتصويب ومعارك وحضور في ميادين الأدب والثقافة. هذا الدور اللائق بك، كما كنت تليق به.