جورج قرم… الآدمي الفذ(نبيه البرجي)
الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب نبيه البرجي في صحيفة الديار يقول:
انها، حقاً، ثقافة التفاهة التي هي ثقافة القرن. وثقافتنا نحن. ما الذي يستثير الرأي العام أكثر، عطل تقني في ساقي هيفاء وهبي أم رحيل جورج قرم؟ القرن ذاته الذي أنتج أبو بكر البغدادي، هنا في الطبقة الدنيا من الكرة الأرضية، والذي أنتج دونالد ترامب، هناك في الطبقة العليا من الكرة الأرضية. الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري سأل عن امكان أن يبقى، بعد حين، مكان للكائن البشري في التاريخ، أو في صناعة التاريخ؟
عندنا، في القارة العربية، لا مكان للكائن البشري سوى في الزنزانة، أو في القبر. الانتقال من السجود في حضرة الله الى السجود في حضرة الآلهة الذي أفرغوا رؤوسنا من كل ما يمت الى الحياة بصلة. يفترض أن نقبع في الزوايا الى أن تحين الساعة، ساعة القيامة، كما لو أن السماء لم تقفل أبوابها في وجوهنا منذ أن احترفنا أن نغرز السكين في ظهور بعضنا بعضا، وفي أرواح بعضنا بعضا، ليختال الأباطرة على جثثنا.
جورج قرم كان يحلم، وكان يتألم. الصديق الفذ، الآدمي الفذ، الذي من برؤيويته، ومن بعبقريته؟ من بموسوعيته ومن بعمقه؟ هكذا ليموت في الظل، وهو يواجه أوجاع ذلك المرض الهائل بالعزف على البيانو، مأخوذاً بأعمال يوهان باخ. وكان يعلّق ضاحكاً حين يخبرك عن ذلك الموسيقي الألماني الشهير الذي أنجب 20 ولداً من امرأتين ليصاب بالعمى، ثم بالسكتة الدماغية، “بعدما أعطى تلك الأشياء الرائعة للحياة ورحل!…
عبثاً حاول جورج قرم أن يحدث تغييراً ما في الحالة العربية، أو في النظرة العربية، لكأنه يصرخ في وجوهنا، وهو الهادئ الذي كما لو أنه “الدانوب الأزرق” ينساب بين أصابع يوهان شتراوس، “أخرجوا، ايها الموتى، من عباءاتكم الصدئة”.
اتصلت به في نيسان الفائت. صدمني صوته المتعثر، لكن دقات قلبه بقيت في شفافيتها، وفي ألقها. سألني “أين أنت يا رجل؟”. أجبته “سأذهب اليك قريباً”. لم أذهب. انا نادم جداً، حزين جداً لأنه هو الذي ذهب. أعده بأنني سأذهب اليه…
من اي زاوية تدخل الى شخصية جورج قرم؟ عالم الاقتصاد، أم المؤرخ، أم عالم الاجتماع، أم المنظّر المالي والاقتصادي؟ حين تسلم حقيبة المال في عهد الرئيس اميل لحود، قيل انه وزير المال الوحيد الذي يضحك بين وزراء المال، بالتكشيرة التقليدية. حاول، بكل الوسائل، أن يقفل في هذه الوزارة الدهاليز التي تؤدي الى جهنم، على أيدي أكلة عظام البشر الذين ابتلعوا المال العام، وابتلعوا ودائع الناس. القصة طويلة، وكان يروي لك بعضاً منها، لينتهي بالقول “هم من الغباء بحيث لا يدرون أنهم يشقون طريقهم، بأظافرهم، الى جهنم”.
كان يعلم أن لا مكان لـ “جيوبوليتيكا الملائكة” في التراث البشري. في كتابه “انفجار المشرق العربي”، وهو واحد من 27 كتاباً نقلت الى العديد من لغات العالم، راهن على حدوث زلزال في العقل العربي للانتقال من استراتيجية الاجترار الى استراتيجية الانبعاث. فوجئ بالصدمات المتتالية، ليسأل “الى أين تقودنا تلك السلحفاة؟”.
شخصية جمال عبد الناصر بهرته، حتى إنه كان ملهمه في وضع ذلك الكتاب، قبل أن يملأه اليأس بعد تلك السلسلة من الصدمات، وبمدى التفاف الأنظمة عليه، وبمدى ركود الشعوب العربية (الركود الآسن). قرم رأى في قرار تأميم قناة السويس الخطوة الأولى نحو اقامة الأمبراطورية العربية التي يفترض أن تكون، بمواردها البشرية، والطبيعية، الهائلة، وبموقعها الجيوستراتيجي، مركز العالم، قبل أن يخترق الأميركيون المنطقة عبر أكياس الطحين (“النقطة الرابعة” في إطار “مبدأ ايزنهاور” حول ملء الفراغ في الشرق الأوسط)، ثم بالاساطيل. ملْ الفراغ بالاستنزاف المنهجي لأجيال العرب، ولأزمنة العرب.
كتب عن البنية السوسيوسياسية، والسوسيوتاريخية، للقارة الأوروبية، ما أثار ذهول الأكاديميين والسياسيين الأوروبيين، ليشهدوا بأنه أبرع من قام بتشريح نظرية صمويل هانتنغتون حول “صدام الحضارات”، وهو ابن العائلة الارستقراطية الذي مال، بعقله وبقلبه، نحو العروبة، والى اليسار، بعيداً عن الأحزاب التي انهمك فادتها في صراع الديكة، فيما، على أرضهم يدور صراع الفيلة.
جورج قرم لم يعد بيننا. لكأن الخيط الرفيع الذي يربطنا بالحياة قد انقطع…