هدى سويد ـ إيطاليا
ألبرقع (1)
.. خرجت من البيت اليوم بعد انحباس قسري إرتضيت به لخمسة عشر يوما أمضيتها بين أرجائه كما لم أفعل من قبل .
تعرفت لأول مرة على لون جدرانه ، عدد درجاته ، سقفه وعليّته ، الحديقة ،أشجارها وزهورها. لملمت وفلفشت أوراقا قديمة ، اختزلت ما يرهق ملفات جواريري وما يضيق به صدر "كومبيوتري" .
كتبت تعهدا للجيش "أن وجهتي تتلخص بالسوبرماركت والصيدلية إن استطعت ! " ليس إلاّ.
حضّرت سلاحي : كمامتي وقفازي يدي البلاستيكيين ، وبكل تأن واحتراز أرخيتها على مقربة من مقودي .
أدرت المحرك يعتريني شيء من القلق كمن يخرج للمرة الأولى من نفق ، إلى أن دفعتني قوة الإنطلاق .
عيناي كأنهما سكنتا في العتمة ، نصف مغمضتين لا تتحملان انعكاس النور ، تتلصص يمنة ويُسرة كمن اعتراها شيء من الريبة لما تراه .
الشارع لا أعرفه ، لا الدكاكين والمحال المقفلة على جوانبه ولا إشارات السير،لافتات المناطق والدعايات الموزعة كأنها قديمة تعود لسنين مضت ..
كأنني أرى فيلم "العمى" لخوسيه ساراماغو"،"يوميات عام الطاعون" لدانيال ديفوى، أو "كابوس في مدينة ملوثة " ل أومبرتو لانسي .
صمت مطبق كأنني لا أنتمي لهذا الزمن ، أجول كأنني أقرأ رواية " تعهدات زوجين" أو "عامود سيء السمعة " لألكسندر مانزوني ، "الموت في البندقية" لتوماس مان ، كما "الحب في زمن الكوليرا" لغابريال غارسيا ماركيز ، ساعية لرؤية المسيح شافيا بلمسته أو صمته .
المساحة ضاقت .. كانت المساحة أكبر، فيها أحياء ، شوارع ، أزقة وناس ! وبما أن عليّ التوجه لأقرب عنوان تلبية لحاجتي المُلحة ، وجدتني أتضاءل وأتحلل .
لا أحد في الشارع ، الحرارة خمس ، برد في مارس "الأذري" ، والريح تلوي الإشجار بهول لا مثيل له ، ريح لا يتمكن من لفح جلدي المُغطى احتياطا بثقل ملابس لم أعهدها ، ولا يتمكن من لفح وجهي كما عهد من قبل فالكمامة تغطي نصفه كبرقع ، لم يتبق من وجهي سوى عينين وحاجبين .
**
الناس أصنام أمام السوبرماركت ، الكمامة تحتل وجوه الواقفين صفا طويلا مُنظّم المسافات .
أصنام ترتدي كمامات، تتحول إلى برقع يُحاصر التنفس، يمنع الكلام ، يلغي حركة الوجه كما بريق وإشارات العيون التي إن التقت صُدفة لا أدري إن كانت تبتسم وعليّ مجاراتها ، مُصافحتها عن بُعد أم أنها ترفض الحوار وما تقديري إلا تخيلات وتقديرات مُغالطة .
رتل أصنام جامدة لا تتحرك إلا عند مناداة العنصر الأمني لعدد منها ، تهمُّ بالمشي مُتحوّلة إلى ما يُشبه الألعاب المُسيرة آليا .
في الداخل مساحتك تكبر أو هكذا خُيل لي من قلة الزبائن ، تتجول بلا مُفاخرة فهناك من ينتظر في الخارج ، وأجدني لا أ لق ما اعتدت عليه وعليّ تسوق ما يلائم الحرب .
أعود للبيت ، أفض مشترياتي مما يُغطيها من نايلون أو ورق ، أُعقم كل ما اشتريته متمنية عدم اللجوء من جديد إلى فكرة التبضع للتنزه !
أرمي البرقع والقفازات ، أترك ملابسي في الخارج ، أدخل عارية إلاّ من الصابون والماء المُغتسل به جسدي .
أعلم أن أياما ستمر كما التي مضت وأن حظر التجول سيطول ، وأنني سأخرج صنما ببرقع كل خمسة عشر يوما المقبلة وما سيليها إلى أن يُفك الحصار ،
أعلم لماذا لم تعد تروق لي لوحات الأمس على جدران البيت ، ولماذا الأشجار تشرئب عالية خارج تربتها ولا تنمو إلاّ مع الضوء ولماذا تروق لي أغنية " السماء في غرفة " لجينو باولي" عندما أركن في العليّة ،
أُعلن : "مكتفية إلى حد الإكتفاء و الإنتماء الأقصى للبيت".
***
تخطيط أولي للمُشتبه به (2)
تجوّل كثيرا قبل أن يطرق الباب ودخل الحدود دون جواز سفر هذا المُشتبه به ، هذا اللامرئي، الخارج "هس " بلا حشرجة ، البيت أربعة جدران ، من يسكن داخله "يُستحسن" أن يكون أفراده أصحّاء ، وإلاّ تتمكن الريبة من الإنصات للخوف ويتحول الزوج ، الزوجة والأبناء إلى أعداء . نهارات ثقيلة طويلة أشبه بالدقائق المعدودة للشوارع المقفرة من الناس قبيل مدفع رمضان ، قبيل الإفطار .
الخارج ممنوع التجول بلا قصف أو دوي، يُحوّل البيوت إلى ملاجئ باردة ، إلى مُعلبات
غذائية إحتياطية الحديقة وهواء الربيع إلى عطر ممزوج بالمعقمات المتيسرة المتسربة من المنازل ، أمّا الزهور لا يكترث أحد لولادتها وتجددها .
الداخل مرتع أفكار وإنتظار ، من ينتظر من ؟
يرتع دون من يحاسبه ويتنقل حرا وحده في الأزقة ، المحلات ، المقاهي ، ملاهي الأطفال والمتاجر المقفلة..
يدب الرعب لا تعرف أين وصل وإلى أين رحل ومتى حل أو سيحل ، هكذا لا شكل ملموس له، لا وقع قدم ، لا صوت .
قد تعودنا كثيرا على الأصوات كما تعودنا على رؤية الأشكال ، رؤية الزهرة والشجرة ، الرسم والنحت ، المطر والنور، الجدار والإسفلت ، الرقص ، العرس والدفن .
واليوم أنت سجين الحجر والإقامة الجبرية، تماديت في التجول والسفر واللامبالاة ، هكذا يرى اللامرئي وكما يُفضّل ، عليك تغيير عاداتك وإيقاعك اليومي ، أن تترك هيصاتك القديمة ، أن تتمرن على نمط حياة مختلفة ، أن تكون وحدك وأن يرحل الآخرون وحدهم ليسوا بحاجة لمرافقتك ،
مشهد بموتاه وناسه المذعورة أشبه بلوحة الرسام الفينيسيي الإيطالي " أنطونيو زانكي" حين حل الطاعون بفينيسيا أسماها " تجريب أولي للطاعون" يمكن استبداله اليوم بالكورونا !
كلما كبرت وعظمت الأمور كلما هانت ، هكذا كنا نردد .
القواميس لم تعد على حالها ، لغة جديدة ومفردات لم تعد تليق بالمرحلة وبمفردات حنونة استعملناها مرار السنين ، ك " كلما صعبت هانت" ، "انتبه ع حالك" ممن ؟ أو " ما تحمل هم " " نم بكرا بتنجلي الأمور و بتنحل" ،"مشتاق" و"إلى اللقاء" و " اخرج تمشّى بتتروحن " وغيرها كثير ..
ممنوعات من المؤكد لن تبقينا على ما كنّا عليه ، وإذا بقينا لن نمض الى الأمام بقواميس الأمس وأراني أستعيد عبارة الأديب الياباني هاروكي موراكامي في روايته "كافكا على الشاطئ" أو
“Kafka sulla spiaggia”
"عندما تهدأ العاصفة قد لا تعرف ربما كيف تجاوزتها وخرجت منها سالما ، كما قد لا تكون متأكدا أنها انتهت حقا .. لكن بخروجك منها لن تكون أبدا الإنسان نفسه حين ولجتها ".