رأي

لنجدد التنقيب بين الجنة والجحيم (نسيم الخوري)

 

بقلم أ.د.نسيم الخوري – الحوار نيوز

        

        قالت بدويّة “إذا كنت في غير وطنك فلا تنس نصيبك من الذّل”. قول زاخر بالمفارقات بين البداوة المسكونة بالرحيل الدائم من الأوطان العربية المسكونة بدوامة عدم الاستقرار، وأجادل فيها نقدا  لمستجدات كوارث الأفكار القومية وبؤسها القديم. 

هذه كلمة ثريّة كنت وما زلت أتمسّك بها وأرفعها فوق الزوايا التي أتأمّل أو أقرأ أو أكتب فيها، وتعني لي ولربّما لغيري الكثير في زمنٍ ينظر فيها العالم الى أرض العرب والمسلمين بكونهم بالرغم من قشرتهم الخارجيّة والبترولية الجميلة والحضارية، فإنّهم لم ولن يخرجوا  نهائيا من مستلزمات البداوة ولربما في هذا الوضع قهر دفين وظلم سياسي عميم وحسد ابدي بتملكهم  ثروات  هائلة لا يتحمّله شعب آخر أو  يقرّ به دين في عالم جديد يخلع اسس الأديان من الأذهان.

       يتعاظم هذا الظلم حروباً قد لا تنتهي بين العرب والعرب وبين العرب والخارج عبر جهات الأرض والعيون تحدق في الموقد المتقد ابدا والمتحول، وأعني به فلسطين التي تسكن ألسنة البشرية وعيونها . يقوى مشحون هذه الكلمة القومية التاريخية في الدنيا لسببين: أوّلهما وطأة الحروب الوحشية الداخلي وتعميم القلق المخيم العاصف ببلادنا وثانيهما حجم المهاجرين والنازحين العرب والمسلمين عن بلادهم وهم  يعانون قطعاً الإزدراء ولو كانوا علماء وشيوع العراء حيثما حلّوا، وهم يشتهون اليوم حتّى الشوادر والأزقّة في أرضهم وأوطانهم على القصور والممالك في عواصم الدنيا وتلالها. 

تلك مشاعر وأفكار تدفعني الى إزالة الغبار عن مقولات الأرض والصحاري واللغة ولو كانت قد ذوت في أهميّتها، ومن أهلها، في عصر من بؤس العولمة الذي تتنافس فيه الدول العظمى وتتقاتل إقتصادياً بهدف الوصول الى الأممية الجديدة التي أراها مستحيلة بالفعل.

 لو سلكنا هذا الدرب مجدّداً، وتناولنا نتفاً منه قد لا تكون وافرة وكافية للمجادلة، نجد في ملفّ العروبة أساساً آراءً وأفكاراً قد تتعارض. صحيح أنّ هذه الأفكار والتجارب الحزبيّة العربيّة قد تجد نفسها وتواريخها اليوم في زمن الصفر أي ما قبل تشكّل القوميات، لكنّ مقاربتها تبقى ضرورية لفهم الميدان المتخبّط الهابط فوق مساحة العرب من ناحية، ولتقدير تلك التجارب القومية ومستقبلها أو بعثها في إحتدام الصراعات المذهبية من ناحية ثانية، وأخيراً للبحث عن المحصلات الكبرى القومية التي قد أجازف في النظر إليها وكأنّها تجارب ذات جذور دينية لم تستطع سوى تأجيل الصراع  بين العرب والمسلمين  بتنوعهم السياسي لبضعة عقود مع العالم، أو أنّها كانت تدور بالمعنى النظري حول الكثير من قضايا المسلمين فتداريهم وتلطّف عقائدهم وطقوسهم عبر الكثير من النظريات التي بقيت تعاني الإستحالة في ديار الدين الحنيف. 

رأى أنطون سعادة الذي ربط بين البداوة والعروبة في القومية العربية، مثلاً، مرضاً نفسياً شوّه العقل والإدراك والمنطق، فذكّر المصابين بمرض العروبة النفسي، ووهم الوحدة العربية وهذيانها، وخيال العروبة، كما نعت العروبة والعقلية العروبية باللاّقومية والإتّكالية واللاتعميرية، وبأنّها عقلية تستلزم المناداة ب: لاحول ولا قوّة إلاّ بالله، وورد هذا الكلام في مقالته:” حاربنا العروبة الوهميّة لنقيم العروبة الواقعية” الواردة في سلسلة الأبحاث القومية والإجتماعية، ص 12-18. ودعا الى القومية السورية مندداً كذلك بالقومية اللبنانية الضيّقة وبقيت فكرة العروبة لديه نوعاً من القناع الذي يعتمره دعاة الطائفية المسلمون، والداعي الى العروبة هو طائفي مقنّع من دون ريب ليكتب في نشوء الأمم ص 130:” لولا علو هذه الجبال والأنهر المتدفّقة فيها، لكانت الصحراء عمّت البلاد ولكنّا تحوّلنا الى عرب.

وهذا الكلام يحمل مغالاة يجب إظهارها في نظري لا بنظره الى منزلة الجغرافية في حياة الأمم ونهضتها، أو ودور الأرض في توجيه حركات الشعوب، وهنا يجدر بنا، كشحاً لعناصر الإستحالة من درب النصوص في تطبيقها أن نطرح أسئلةً نقدية، كان هو نفسه قد طرحها، وأجاب عنها وعدّلها، أعني تلك القدرات التقنية الهائلة التي يتمتّع بها إنسان اليوم المعاصر في تسخير قوى الطبيعة كافةً وتحويلها في تبادل الوعر بالخصوبة وبالعكس كما حصل في بلاد الخليج والعديد من بلاد العالم على سبيل المثال. 

هل نجرح هنا كبرياء الفكر وقوّته إن نحن أعدنا النظر في نصوص سعادة الجغرافية أو في الجغرافية كأساس متين في إعادة بناء القومية وتحديدا في ضوء الجغرافية العربيّة الجديدة وتحولاتها في المعاصرة؟

 يمكننا ذلك قطعاً، وخصوصاً أنّ سعادة اللبناني قد ترك الباب مفتوحاً لنا عندما أشار الى ” أنّ الأرض تقدّم الممكنات لا الضروريات والحتميات وأنّ تأثير الطبيعة يكون كبيراً في الأقوام الإبتدائية لكنّه يضعف كثيراً في الأقوام المتمدّنة”. أليس أمراً واقعاً أن نرى الصحراء تزهو وتزهر كما أفضل الأرياف الخصبة في العالم بعدما امتدّت يد التحديث التقنية إليها وحوّلتها جغرافية خضراء مبرّدة وكاملة التجهيز والخضرة؟

قد أدفع التفكير النقدي الى أعمق، فلا يعود التراب عنصراً مادياً أو مركّباً كيميائياً واحداً، لكنّ هويته تصبح متعددة الألوان والتفاعلات تندمج فيها عناصر التنوّع في الوحدة والوحدة في التنوّع وتؤثّر في البشرية التي قد تكون واحدة بالمعنى القومي ومفاهيم الأوطان وبقع الإنتماء الى الأرض الملوّنة. فقد جمع الفنّان اللبناني عدنان حقّاني مثلاً مئة ونوعين من التراب اللبناني والعربي وولّف منها سجادةً ترابية رائعة أسماها “مرايا التراب” مستقرئاً مفهوماً جمالياً تعدّدياً لأحادية التراب والأرض وآثارهما النفسية والفلسفية والوجودية على قاطنيه، وعرض سجّادته الناطقة بوحدة التراب العربي في بيروت 19 أيّار 2014. 

ولا يمكن للأرض أن تستمرّ لتكون ألصق بشخصيّة الإنسان ومسراه من اللغة التي قلّل سعادة من شأنها معتبراً إيّاها “وسيلة من وسائل قيام المجتمع ولأسبابٍ من أسبابه”. لكنها سبب ونتيجة وهي أداة التفكير والإبداع وحاملة التراث الأدبي والثقافي. إذا كان نظام سعادة الفكري قد استمرّ ثابتاً وصلباً في عقل القوميين الإجتماعيين وسلوكهم السياسي في بعض بلدان الهلال الخصيب، فإنّ فكر ميشيل عفلق البعثي الذي وصل الى حكم سورية والعراق قد خبا قبل سقوطه في العراق في ال2003 وكبا أيضاً بعد تخريب سوريا منذ ال2011 وهو ما قد يحوّل ما سمّي بالهلال الخصيب الى هلال يتعاظم فيه الحس المذهبي وتتقاتل فوقه  فصائل المسلمين المتنوّعة من أفغانستان الى المغرب صعوداً نحو مسلمي الغرب في أوروبا وبريطانيا وأميركا. وعفلق رأى في الإسلام، كما نعرف، جوهر الدعوة القومية العربيّة وركنها الأساسي، فكتب أنّ:

 “العرب ينفردون، دون سائر الأمم، بهذه الخاصية. إنّ يقظتهم القومية إقترنت برسالة دينية أو بالأحرى، كانت هذه الرسالة مفصحةً عن تلك اليقظة القومية. وما دام الإرتباط وثيقاً بين العروبة والإسلام وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحها الإسلام، فلا مجال إذن للخوف من أن يشتطّ العرب في قوميتهم… وسوف يعرف المسيحيون العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامّة، ويسترجعون طبعهم الأصيل أنّ الإسلام لهم ثقافة قومية، يجب أن يتشبّعوا بها حتّى يفهموها فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أغلى شيءٍ في عروبتهم”.

الى أين من هنا؟

الى الدعوة نحو التمسّك المتجدد بقيم الأديان وطقوسها، وهي نبعت من أرضنا وتتم صيانتها من مدّعينها الكثر والمستثمرين فيها، والى التمسّك بشأن اللغة العربيّة التي تتشوّه في عصور الشاشات.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى