أهل اليمن وحقائق الدين والتاريخ:بين نصوع التجربة وخطايا الإعلام(فرح موسى)
أ.د.فرح موسى- الحوار نيوز
إعلامنا العربي والإسلامي يبقى بحاجة دائمًا إلى مَن يذكِّره بمناقب الشعوب العظيمة،وغرابة المواقف الهجينة.فهو بدل أن تستغرقه تجارب التاريخ الناصعة،وتلهمه الأحداث المتجدّدة بكل ما تستحضره من مناقب وفضائل الشعوب،نراه يتوه في تفاصيل السياسات اليومية،ومهازل الثقافة،ومتاهات التحيّز لحواضر الأيام،ومنافع الأقلام.
فهذا اليمن السعيد يعود بنا إلى تاريخه الناصع،فيقدّم لنا تجربته بكل ثوابتها ومناقبها؛فلا يحتاج لأحد كيما يشهد له بتمايز تاريخه،وفرادة تحولاته في الثقافة والحضارة وتقلبات الأمجاد.بل هو كان وما يزال الشاهد علينا في ثوابت دينه،وصدقية التزامه،وشجاعة مواقفه،كيف لا ،وقد قدّمه القرآن الكريم لكل الأمم بما خصّه به من فضل على سائر الأمم،كما قال تعالى:”يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلةٍ على المؤمنين،أعزةٍ على الكافرين،يجاهدون في سبيل الله،ولا يخافون لومة لائم.ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،والله واسع عليم..”.
فهذه الآية،كما يرى أهل العلم والتفسير ،نزلت في أهل اليمن،وتجمع لهم من الصفات والفضائل ما يجعلهم أهل فرادة وتميّز في الدين والجهاد والصبر على مشاق الحياة.ولا شك في أن هذه الآية تستأهل أن يكون لها تدبّر خاص لفهم مفرداتها وتنوع دلالاتها لجهة ما تفيده في معانيها المختلفة،وهذا ما لا تتسع له هذه المقالة،على أمل أن نوفق لذلك في مبحث آخر إن شاء الله تعالى.
إن ما خصّ الله تعالى به أهل اليمن من فضل ونعم جعلهم رأسًا في قائمة التحولات العظمى للأمم والشعوب،كما قال تعالى:”لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةً،جنتان عن يمين وشمال،كلوا من رزق ربكم واشكروا له.بلدةُ طيّبةُ.ورب غفور”.(سبأ:١٥ ).فأهل الفكر والسياسة،وكذلك أهل الإعلام،يفترض بهم دائمًا أن يميّزوا بين ما يقدّمه التاريخ للناس من أحداث وتجارب وشعوب،وبين ما يقدّمه القرآن الكريم من تمايزات ومواصفات لأمم وشعوب علم الله تعالى في علمه القديم أنهم يستأهلون الفضل،وأن تكون لهم جنان الدنيا والآخرة،كما قال تعالى:”ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”.
فإذا كان الله تعالى قد خصّ أهل اليمن بالفضل لما تميّزوا به من ثبات في الموقف،ووضوح في الرؤية،وصدقية في الالتزام،فإن هذا لم يكن منهم في تاريخ الإسلام فحسب،وإنما هم عُرفوا بذلك في كل تحولاتهم التاريخية،وهذا ما ترشدنا إليه آية سبأ،حيث قال تعالى:”بلدةُ طيّبةُ.ورب غفور..”.
وكلام الله تعالى،كما يعلم أهل العلم والتفسير، له خصوصيات كثيرة من جملتها:الخلود والإعجاز.والآية المباركة ظاهرة في كون هذه الطيبة ثابتة لبلاد اليمن وأهله،وهي مستمرة فيهم إلى يوم القيامة.وكذلك الإعجاز،فهو ظاهر أيضًا في أن أحدا من الناس لا يمكنه أن يجمع لأهل اليمن طيب الأرض ومغفرة السماء.فأهل اليمن،قبل الإسلام وبعده،ليسوا حدثًا عابرًا في تاريخ البشر،لا في دينهم،ولا في سياستهم،ولا في طيب أرضهم وطهارة مولدهم،وهم حيث عُوقبوا على كفران النعم،فلم يمنعوا طيب الأرض،ولا بركات الحياة،بل تجذّروا في التاريخ،وامتدوا في الزمان والمكان والتاريخ والحياة،لتكون لهم إثارة في كل أرض،وأحداث في كل زمان.
فحيث نضرب بالطرف نجد اليمن وأبناء سبأ،فهم كانوا مع النبي سليمان ملوكًا،وانتهوا مع رسول الله محمد ص أنصارًا،وقد قال فيهم ص:”لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار..”،فالأوس والخزرج جاؤوا إلى المدينة من تاريخ سبأ،ومن طيب أرضها،ليكونوا أنصارا في مواجهة الشرك والوثنية،ولم يكونوا من الطلقاء أبدا.فماذا عسانا نقول لإعلامنا العربي والإسلامي حين تأسره أكاذيب التاريخ والجغرافيا،وتخونه الذاكرة،أو تضلّله خرافات الدين،وجهالات السياسة،غير ما قاله الرسول ص للأنصار:”إنكم ستلقون من بعدي أثرة…”،داعيًا الله تعالى أن يرحم الأنصار أحياء وأمواتا.
لقد أعطى القرآن لأهل اليمن من الفضائل ما لم يعطه لغيرهم. أعطاهم الفتح المبين،وروح اليقين،فأسلموا لله طوعًا مع الإمام علي ع في صلاة واحدة على نحو ما أسلمت به بلقيس سبأ مع سليمان،فقالت”ربِّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين”.فيا لها من صلاة غيّرت وجه التاريخ،وأشرقت بها شمس صنعاء ومأرب وقبائل همدان.هناك حيث تحوّل التاريخ،وامتدت إشراقة الصباح من المدينة المنورة إلى صنعاء بسلام رسول الله ص على همدان استبشارا باليقين اليمني،والهدي العلوي.ثم يأتي مَن يقول في إعلامنا العربي والإسلامي بخلاف قول الله تعالى.فأيُ مصيبة هذه ابتليت بها الأمة الإسلامية في تاريخها،إذ هي تجاهلت انتصارات اليمن على أهل الردّة،وفي اليرموك والقادسية،وقبل ذلك انتصارات فتح مكة وخيبر،وعادت لتشكك في تاريخ انتصاراتها، وتفرض الموت والدمار على كل من كان سببًا في وجودها ونجاح مشروعها الإلهي،متخذةً من إعلامها مطيّة للفوز بأكاذيب الدين والتاريخ مجددا،ساهيةً عن حقيقة أن تاريخ الإسلام له في كل زمان إعلامه الصادق في كتاب الله تعالى.
فلا عبرة بما يقوله الناس إذا كان القرآن دائمًا هو الذي يفنّد المزاعم ويبطل الأقاويل.فإذا كان معنى الإعلام رصد الأحداث ومتابعة، قضايا الأمة،وتظهير الوقائع والمواقف بما يخدم مصالح الناس،فلا أقل من أن يكون الإعلامي على وعي بالتاريخ وتحولات الأمم في الدين والسياسة والاجتماع والثقافة،فهذا كله من شأن الوعي به تمكين الإعلام وأهله من القيام بواجب نصرة الحق وإزهاق الباطل،بحيث تكون للإعلام نزاهته العلمية في تقصي الحقائق وإعلان المواقف، وذلك من منطلق أن الأعلامي ليس مجرد ناقل للخبر،أو محرر له،وإنما هو باحث ومحقق بكل ما يعني الأمة من قضايا دينية وسياسية وثقافية.
إن ما يؤكده القرآن الكريم،هو هذا الموقف،أن اليمني لم يبدأ من سبأ،بل له من التاريخ ما يمتد به إلى أنبياء الله تعالى نوح وهود وسليمان ومحمد ،وهو لن ينتهي عند البحرين العربي والأحمر،لأن الإسلام وجوهر الانتماء له يفرضان دائمًا أن يكون لليمني فتحه المبين وجهاده المقدّس على مساحة الأمة والعالم،وقد سبق لليمني أن أطل على بلاد السند والمغرب الأقصى وفرنسا وبلاد فارس والروم،وحيث كانت للإسلام إشراقة الهدى وفتوح الحضارة.ذلكم هو معنى أن تكون لليمني طيبة الأرض ومغفرة السماء وثبات الموقف في كل ما يخص قضايا الأمة في الدين والدنيا.ويكفي اليمني فخرًا وعزةً وإعلامًا صادقًا،أن يقول رسول الله :”الإسلام يمان،والفقه يمان،والحكمة يمانية..”،وهذا ما ينبغي على أهل الإعلام ووسائله المختلفة تفسيره والنهوض به والبيان عنه،على قاعدة الصدقية في الموقف،والنزاهة في البحث،والوعي بحقائق الدين والتاريخ وفضائل الأمم والشعوب.والسلام.