كتب أسعد أبو خليل* في صحيفة الأخبار:
تجربة نجاح واكيم السياسية تجربة غنيّة جداً واستثنائيّة في الاستقلاليّة. لقد بدأ الرجل في السياسة وهو صبيّ. قرّر أنّ جمال عبد الناصر يمثّل تطلّعاتِه السياسيّة قبل أن يعرف مضمون البرنامج الناصري. لم يكن وحيداً. عندما تنشأ في عصر الذلّ الذي مثّلته الأنظمة العربية، يصبح عبد الناصر رمزاً لمعانٍ إنسانيّة وفرديّة وأخلاقيّة: الكرامة والعزّة والكبرياء والاستقلال. هذه الصفات كان الملايين من العرب ينشدُها لأنّ القادة العرب (كلّهم) مثّلوا عكس هذه القيم. لو أنني شاهدتُ وأنا صبيّ صورة عبد الناصر وهو جالس فاتح الساقَين مع أنتوني إيدن (مبكراً بعد الثورة) أو وهو يصافح بعد ذلك أيزنهاور لاكتفيتُ بالصورتَين كي أنضمّ إلى الخط الناصري.
المذكرات كانت منتظرة وهي تلبّي حاجة كبيرة في المكتبة السياسيّة اللبنانيّة، وإن كانت المذكرات تحتاج إلى المزيد من الاستفاضة والتوسّع والتفصيل. لكن شخصيّة الرجل الصادقة والنزيهة، وغير المواربة، تجعل من الكتاب ركناً أساسيّاً في تاريخ الحرب والمرحلة الحريريّة. لا يمكن أن تقرأ الكتاب ولا تغيّر رأيك في الكثير من الشخصيّات والزعماء في لبنان. حتى سليم الحصّ لا ينجو من نقد واكيم الذي كان يريد من الحصّ أن يكون أكثر جرأة في مواجهة الحريريّة. واكيم على حقّ: من الأكيد (بناءً على ما جرى بعد ذلك) أنّ خطّة الحص في مواجهة الحريري كانت فاشلة بالكامل، وأنّ الحص (وخصوصاً في حكومته في عهد لحّود) لم يكن يريد صدّ برنامج الحريرية (قال الحصّ عن حكومته في عهد لحّود: «إنّ سياسة الحكومة على الصعيدَين الاقتصادي والمالي ستكون استمراراً لنهج الرئيس رفيق الحريري»، ص. ٢٠٨). حتى الخصخصة حدّث الحصّ واكيم عن مزاياها.
يتناول الكتاب عدّة فصول من تجربة واكيم. كنت من البداية أتوقّعُ وأترقّبُ تفاصيل أكثر عن المرحلة الأولى. هو مثلاً انتُخب نائباً في ١٩٧٢ وكان لا يزال في سنّ السادسة والعشرين. حملته الانتخابيّة على قائمة التنظيم الناصري – اتحاد قوى الشعب العامل (مع حليفه آنذاك كمال شاتيلا) نالت حجماً كبيراً من الحماسة الشعبية والاهتمام الإعلامي، وأقلقت الزعامات التقليديّة. أذكرُ صور واكيم وشاتيلا في كل شوارع بيروت الغربيّة. والتنظيم كان ماهراً في الإعلام والعلاقات العامّة وبقي إعلامه قويّاً حتى بعد انسحابه من الحركة الوطنيّة في ١٩٧٦.
يذكر واكيم أنّ العداء للفدائيّين الفلسطينيّين ترافق مع شعارات «السلاح غير الشرعي والسيادة وأمن المسيحيّين» (ص. ٣٩). ما أشبه اليوم بالبارحة مع فارق أنّ المقاومة اليوم هي لبنانيّة والطريقة الوحيدة لتطبيق شعارات الأمس عليها هي في نزع صفة اللبنانيّة عنها (إيرانيون «ما بيشبهونا»). وواكيم على حقّ أنّ الكتابة على الجدران ضدّ المقاومة لَم تكن عفوية أبداً. ويذكر حادثة مهمّة من عام ١٩٧٠ وفيها يصارح شارل حلو السياسيّين اللبنانيّين بمخاوفه من زيادة التعلّم والإنجاب عند المسلمين وإيمانه بتقسيم البلد قائلاً: «لا بدّ من الاتفاق على التقسيم. فهذا التقسيم إمّا أن يتمّ بالاتفاق، وإمّا أن يتمّ بالدم. فتعالوا نتّفق على التقسيم لكي نتجنّب الدم» (ص. ٤٢). وواكيم، خلافاً من الكثير من الوطنيّين في جيله والجيل الذي تلاه، لم تساوره أيّ مشاعر إعجاب بشخص ياسر عرفات. قرّر! مبكراً أنه «ممثّل» واستعراضي وتهريجي (ص. ٤٤). الغريب أنّ عرفات استحوذ على تأييد الكثير من زعماء وشخصيّات الصفّ الوطني في لبنان (عامل المال كان مُقنعاً طبعاً).
كان انتخاب واكيم في ١٩٧٢ ظاهرة سياسيّة كبيرة. أزعجت الكنيسة الأرثوذكسيّة (التي دعمت نسيم مجدلاني) كما أزعجت صائب سلام (الذي أيّد نسيم مجدلاني). كانت تلك أوّل انتخابات في عهد سليمان فرنجيّة، وكان سلام يتوقّع أن يكتسح بيروت الغربيّة. ولفت واكيم الأنظار إليه مبكّراً في خطبه في مجلس النواب لأنه كان يشير إلى القضايا الاجتماعيّة والسياسية، رابطاً بين العدل الاجتماعي والوحدة العربيّة وتحرير فلسطين. وفي زمن نقل الجلسات على التلفزيون مباشرة للمرّة الأولى، زادت شعبيّة واكيم وأصبح مطلوباً في منابر المهرجانات السياسية للمقاومة الفلسطينية والقوى الوطنيّة.
كان أسلوبه يختلف عن النمط التقليدي في مجالس لم تكن تقبل بوجود تقدّميّين فيها. تحدّثَ عن التجربة الوجيزة لأمين الحافظ في ١٩٧٣ (ص. ٥٤) والذي حورب من قِبل صائب سلام ورشيد كرامي (الذي كان يترأّس القائمة التي يترشّح فيها). لكن تعيين الحافظ كان بغرض خدمة الأجندة الخبيثة لسليمان فرنجيّة آنذاك. يذكر اجتماعاً له مع سليمان فرنجيّة (لا يذكر السنة لكن لعلّها في ١٩٧٥، ص. ٥٦). يعبّر واكيم لفرنجية عن مخاوفه من اشتعال الحرب الأهليّة ويقترح عليه الاجتماع إلى ياسر عرفات. يجيبه فرنجيّة: «هالكذاب المنافق. أبداً. سَمِّ لي أيّ مسؤول فلسطيني آخر. أيّ مسؤول. على راسي. أجلس معه ونتحاور. أما هذا الكذّاب فلا» (ص. ٥٦).
المذكّرات كانت منتظرة وهي تلبّي حاجة كبيرة في المكتبة السياسيّة اللبنانيّة، وإن كانت المذكرات تحتاج إلى المزيد من الاستفاضة والتوسّع والتفصيل. لكن شخصيّة الرجل الصادقة والنزيهة، وغير المواربة، تجعل من الكتاب ركناً أسياسيّاً في تاريخ الحرب والمرحلة الحريريّة
يذكر اللقاء الأوّل مع القذافي، وكيف ردّ على كلام القذافي الذي طالب بإشعال حرب أهليّة أو ثورة في لبنان (ص. ٦٩). ثم يصل إلى مرحلة الحرب الأهليّة. لم يكن واكيم مرتاحاً لرفع شعار «عزل الكتائب» (وكان المؤرّخ وليد الخالدي قد حذّر عرفات مبكراً من هذا الشعار، لكن عرفات كان متشبّثاً به— سمعتُ الرواية من الخالدي قبل أشهر. وكان جنبلاط متمسّكاً بالمطلب أيضاً). وواكيم حذّر عرفات من الشعار قبل أن تنادي به «الجبهة العربيّة المُشاركة في الثورة الفلسطينيّة». فمَا كان من عرفات إلا أن أجابه: «هو أنت ضدّ عزل الكتائب»، ملمّحاً إلى دينه (ص. ٧٢). يذكر لقاءه مع عرفات بعد اتفاقيّة فكّ الاشتباك الثانية بين مصر وإسرائيل، وكيف أنه ذُهل بدفاع عرفات عنها (بقي عرفات وجنبلاط قريبَين من أنور السادات في تلك الفترة، وهناك بيان من جبهة الرفض ضدّ جنبلاط بسبب موقفه الداعم للسادات — قبْل زيارة القدس طبعاً).
يروي قصة انتخابات الياس سركيس وعن تولّي السعودية الدفع للنواب، ويقول إنّ كامل الأسعد تلقّى مبلغ ١٦ مليون ليرة «مضافاً إليها مئتا ألف ليرة عن كلّ نائب في كتلته. لكنه لَم يعطهم شيئاً» (ص. ٧٩). شمعون اشترط الحصول على ٦ ملايين ليرة لحضور الجلسة، حسب الرواية. يروي عرضاً مفصلاً مهمّاً من تاريخ تلك الحقبة من الحرب عندما هجمت قوات المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة على مراكز الأحزاب الوطنية الموالية لدمشق والتي أيّدت التدخل العسكري السوري في لبنان. واحتجزت حركة «فتح» واكيم. يتحدّث عن دور جوني عبده الذي كان، مع فؤاد بطرس، يُسيِّر الرئيس سركيس. وعبده كان عرّاب إذعان سركيس لبشير الجميّل وكان دائم «الزيارات إلى إسرائيل» كما أنه كان يستضيف شارون وغيره في منزله (ص. ٨٣. تقول المراجع العبريّة إنّ عبده هذا كان ضيفاً لشارون في مزرعته في النقب المحتل). ويقول عن شفيق الوزان (الذي كان بحقّ أضعف رئيس حكومة في تاريخ الجمهوريّة) إنه كان «سخيفاً إلى أبعد الحدود» و«كان طوال حياته السياسيّة صنيعة الشعبة الثانية أو مخابرات الجيش» (ص. ٨٤). ويتحدّث واكيم بصراحة كلّية عن ترحيل منظّمة التحرير ويتبرّم، عن حقّ، من رفع عرفات المُنهزم، شارة النصر وهو مُرحَّل مع قوّاته على متن بواخر. كما قال واكيم: «سلَّم عرفات بكل الشروط الإسرائيليّة» (ص. ٩٥). عرفات عكس السنوار.
يذكر واكيم مرحلة مهمّة تلت اغتيال بشير الجميل، عندما تمّ ترتيب تنصيب أمين الجميّل (من نفس الجهات الإسرائيليّة). يقول إنّ معظم النواب المسيحيّين كانوا يلقون خطباً فيها نفحة الانتصارية الطائفية وأنّ «لبنان لنا» (ص. ١٠١). أمّا مرحلة ١٧ أيار، فكان يجب أن يفرِد لها واكيم مساحة أكبر، وخصوصاً أنّ شجاعته ضدّ الاتفاقيّة كانت نادرة جدّاً وصوّتَ ضدّها وحيداً مع زاهر الخطيب. يروي كيف أنه زار المفتي حسن خالد لتحذيره من أخطار الاتفاقية، فما كان من المفتي إلا أن قال له: «ليش أنتَ ما بتعمل مسلم؟» (ص. ١٠٧). لم يجد واكيم موقف الحص قويّاً بما فيه الكفاية (وهذا جانب من المذكّرات كان مفاجئاً. إنّ واكيم اختلف مع الحص في عدّة مواقف، ويبدو أنّ معارضته للحريري لم تكن قويّة وخصوصاً في الشقّ الاقتصادي الذي لم يخالفه في فرضياته الرأسمالية). وبسبب معارضة واكيم للاتفاقية، تعرّض لهجوم شنيع من محمد علي الجوزو في جريدة عوني الكعكي ووصفه الجوزو بأنه «عدوّ الإسلام والمسلمين» (ص. ١١٠). وواكيم لا يواري أو يداري في كلامه عن المسؤولين في لبنان وسوريا. سمعنا كثيراً عن بذاءة وسوقيّة كلام عبد الحليم خدّام، لكن واكيم تجرّأ على إعطاء القارئ نموذجاً من طريقة كلامه عن ساسة لبنان من حلفاء سوريا (ص. ١١٣). يقول خدام لبري وجنبلاط: «وبدكم تحكموا بيروت بالصرماية». ويقول خدّام لواكيم (في منتصف الثمانينيّات): «هل يعجبك منظر هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم حزب الله؟ هؤلاء يجب محاصرتهم والقضاء عليهم» (ص. ١٢٠).
وللمرّة الأولى، يتحدّث نائب من الطائف عن القبض «والشحادة» في الطائف. وهناك تلميح في الكتاب إلى أنّ غازي كنعان يمكن أن يكون قد «تخلّص» من رينيه معوّض لأنّ الأخير كان يريد اعتماد سليم الحصّ رئيساً له (ص. ١٤٤). لكن هل كان يمكن للنظام السوري أن يزكّي ويدعم معوّض من دون أن يكون قد اتفق معه مسبقاً على التعيينات، وخصوصاً أنّ معوّض كان موالياً للنظام؟ وهناك رواية مفصّلة عن الفساد والسرقة من قبل محسن دلّول والياس الهراوي وعبد الحليم خدّام وغازي كنعان (ص. ١٤٧). وكل هؤلاء حكموا لبنان. وواكيم يعترف بأنّ الذين عارضوا مشروع سوليدير المشؤوم كانوا (بالإضافة إلى واكيم الذي عارض مبكراً وبقوّة) ثلاثة: الياس سابا وحسن الرفاعي وألبير منصور (ص. ١٥٦، والثاني عاد وماشى الحريرية). والصورة التي يرسمها واكيم للحص، من ناحية مهادنته للحريرية والنظام السوري قد تزعج مؤيّديه ومحبّيه. قبِل الحص مثلاً بتسمية الحريري رئيساً للحكومة بعد انتخابات عام ١٩٩٢ (ص. ١٦٤). أصرّ واكيم على تسمية الحصّ، الذي سمّى الحريري. والحصّ أيّد الخصخصة وأيّد أوّل موازنة لحكومة الحريري (ص. ١٧٨). وأخيراً، يكشف لنا واكيم حقيقة ما جرى في لجنة تحقيق البوما في البرلمان، ويؤكّد ما تسرّب أنّ أمين الجميّل وسامي مارون كانا بطلَي الفضيحة تلك بالرغم من التستّر الذي لحق بأعمال اللجنة (ص. ١٨٥). وعندما قرأ إيلي الفرزلي تقرير اللجنة لَم يذكر اسم أمين الجميّل، إلى أن صرخ به واكيم (ص. ١٨٥). ويتحدّث واكيم عن أساليب فساد ماكينة الحريري الانتخابيّة (ص. ١٩٩).
إنّ هذا الكتاب مرجع مهمّ عن السياسة اللبنانية، لكنه لا يكفي لأنّ تجربة واكيم السياسيّة تتعدّى مضمون الكتاب وهناك الكثير من التجربة التي يشعر القارئ بالحاجة إلى الاستزادة عنها.
* كاتب عربي – حسابه على «اكس»
asadabukhalil@