الجمهورية ضائعة والأرض تنطّ فوق الميزان
الدكتور نسيم الخوري
ألحَّ أحد أباطرة الصين الأقدمين على كبير الفنانين في بلاطه بالإسراع في تهشيم صورة الشلاّل المتدفق من لوحة جدارية كبرى من الفسيفساء تزيّن الجدار الغربي في قصره الفخم. السبب كما توهّم، أنّ صورة الشلاّل تبعث خريراً قوياً للمياه تزعجه وتحول دون رقاده. غريب!! مع أنّ النوم على صوت خرير الماء من متع الحياة.
قد تجذبنا هذه القصة الطريفة التي تفضح أمزجة السلاطين في الإمبراطوريات العريقة في الصين القديمة وغيرها، كما تفضح ربّما أمزجة الحكّام في العصور الحديثة. إنّها قصة ترجع الى زمنٍ لم يكن الغرب قد قرع فيه باب الشرق بعد. أمّا الناحية الغربية التي رفعت فيها اللوحة التي تزعج الإمبراطور فلا تعنى شيئاً لنا سوى ارتياحنا كشرقيين للسكون في لوحات الفسيفساء وبرودتها وجمالها بالطبع، وخصوصاً أنّ فنون العمارة عندنا زاخرة بهذا الفن البديع.¬
ماذا إذن؟
1- مع أنّها صورة زاخرة بما يميّز طبيعة الصينيين والشرقيين خصوصاً وأنّ الشمس ملك الشرق تطلع أبداً من خلف أكتافهم، لكنّ رفعها من ناحية الغرب تزعج الأباطرة والسلاطين وكأنّ الغرب الغازي ما زال يتلطّى خلف الجدار الغربي.
2- تدلّ الصورة بالإصبع إلى منطق قديم جديد يتكرّر، إذن، في الصراع الدولي العظيم، تبدو فيه الصين متحفّزة نحو اللحاق بهذا الغرب والسهر على تحطيم صورته وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
وتبرز هذه الصين اليوم بالعين الغربيّة العالميّة مزرعة للجراثيم وآخرها الكورونا الماحقة، وهي كانت مشتلاً لجرثومة السار وتصوّر على أنّها المنبع والمصدر، الأمر الذي ضاعف من يقظتها لتخرج من عزلتها وضمور أسواقها فتكسر الفسيفساء الدوليّة وتعبر الى العالم بعدما أغرقت أسواقه وملكت رغبات شعوبه المتنوّعة بضجيج منتوجاتها وضآلة أسعارها.
تأتي الجراثيم مجدّداً من الشرق مقابل جنون البقر ومرض السيدا وأمراض أخرى غربية معاصرة ومصنّعة وكثيرة وكأنها موضة Mode La الموت المتقدّم الذي يطلّ فيرعب ويهدّد البشرية بالفناء.
يرتفع القلق الى متسويات خارقة لطالما مهّدت لها وسائل الاعلام الغربية من أن نهاية العالم مرتبطة، بالوجوه السلبية لتقدم العلوم. هكذا تهادى مفهوم الصراع الدولي في حلَّة محشوة بالتهويل تجعل العالم مهدداً في أجناسه بالإنقراض التام، على اعتبار أن الانسان المعاصر قد أدخل نفسه في جدلية اليوم الأخير ومخاطره ووضعت الأرض كلها في الميزان.
أذكّر بأنّ آل غور نائب الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، على سبيل المثال، أصدر في العام 1997 كتابين بعنوان: "جدل اليوم الأخير" و "الأرض في الميزان" بحث فيهما بالتفصيل كيفية فتك المواد الجرثومية والكيماوية المركّبة بالبشرية، ومدى مخاطر الحروب المقبلة في تحقيق أفكار القيامة الدينية والأسطورية، بما ينسف الوجود الأرضي بالكامل. وتندرج في هذا الإطار، تحولات التلوث التي تلف الكرة الارضية ومعضلة الأوزون، والرعب من الحروب العالمية تحت ستائرالاسلحة الجرثومية والكيماوية وسلطات الليزر والإنتشار المتنوّع عبر الفضاء ووضع البشرية تحت نقرة الإصبع الغربيّة والشرقيّة، وكلّها ترفع كلها من شأن النهايات والانهيارات.
تسقط البشرية اليوم، شيئاً فشيئاً في قبضة الكورونا، ويموت الناس بالآلاف خنقاً لقطرة هواء ثمّ يدفنون حرقاً. نحن الأحياء الناظرون من جحورنا إلى مشاهد الشعوب والدول من مختلف الجنسيات يبكون ولا ينامون ويتعاونون ويتجاوزون مشاكلهم وخلافاتهم ويصلّون طلباً للخلاص. روسيا مدّت أيديها إلى أوروبا وأميركا التي مدّت أيديها إلى الصين وكلّ جنسيات العالم خرجت إلى الساحات في إيطاليا ودول أوروبا تبكي وتصلّي للغفران، إلاّ بعض السياسيين اللبنانيين الذين لا مثيل لهم في أرجاء الكرة الأرضية يتعايرون ويحقّرون بعضهم بعضاً ويشحنون لبنان بالأحقاد والتقاتل على المناصب والحصص، في زمنٍ مرذول يغزو المرض والفقر والموت الجميع.
أجاب لبناني حاصره الجوع محدّثته الإعلاميّة التي ملأت الشاشة بأناقتها وماكياجها وضحكتها وكتفيها العاريين: "صار الموت بالكورونا أفضل من العيش في لبنان أو سماع أخبار السياسيين وأسئلة الشاشات وأنا أبحث عن الخبز".
يهدّد بعض الزعماء بإسقاط الحكومة اللبنانية بسبب التعيينات المالية والإدارية لمصرف لبنان أو في تنظيم ملف إعادة المغتربين في العالم إلى بلدهم، وقد أعلن زعيم بأنّه "باقٍ حارساً وحيداً للجمهورية في عصر الكورونا"، وسأله مواطن على الواتس أب: أتدلنا أين هي الجمهورية سيّدي؟ وماذا لو خطفت الكورونا قاطني الجمهورية من اللبنانيين لا سمح الله؟
وأضيف:
هنا تكمن المسافة بين سلطة الفرد وسيادته التي لن يمتلكها بشري على الإطلاق بوصفه الإنسان الأوّل والأوحد.
لماذا؟
لأنّه منذ انتقال الكائنات الحيّة للعيش فوق اليابسة قبل 400 مليون سنة خلت، بدت الحياة محفوفة بالصعوبات الهائلة، أوّلاً، لأنّ الكائنات ممتلئة بالماء وعليها حماية نفسها من القحط والجدب والجفاف، وثانياً، لأنّ الهواء لم يساعدها على السعي والحركة بالسهولة التي كان يوفّرها لها الماء وثالثاً لأنّ أنظمة المعيشة المعقّدة بحاجة دائمة للإستقرار والتغير الدائمين معاً. وعليه، راحت الجينات تبتكر بشكلٍ طبيعي العديد من العلاقات الشديدة التعقيد وتبادل المنافع الخاضعة للعديد من العمليات البيولوجية والفيزيائية والإلغائية الشرسة التي بدت حاسمة في تشكيل سلسلة من الدفاعات والسلطات القويّة لمجابهة إختلال الموازين المحدّدة أساساً في المكان والزمان. كان الإنسان هو السيّد المطلق الباسط سلطاته على الكرة الأرضيّة، لكنّه مقيم وكلّنا معه متساوين فوق ميزان جرثومة الكورونا حتّى كتابة هذا النص.