تعليق التشريع غير المبرر يوسع صلاحيات مصرف لبنان على حساب المجلس النيابي
أنطونيوس أبو كسم
كان من المتوقّع أن يجتمع مجلس النواب في عقدٍ عاديٍّ يبدأ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار، حيث تتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار وفقاً للمادة 32 من الدستور اللبناني.
هل إنّ إعلان التعبئة العامّة لمواجهة فيروس كورونا بتاريخ 15 آذار 2020 يؤدّي إلى تعليق العمل بالدستور أم هناك سبب آخر؟
قانوناً، لا يؤدّي إعلان حالة التعبئة العامّة لا إلى تعليق العمل بالدستور ولا إلى وقف عمل المؤسسات الدستورية، فالحكومة تجتمع مرتين في الأسبوع وسط تدابير وقائية. ولم يشهد بلد أن توقّف فيه مجلس النواب عن الاجتماع بسبب كورونا، وها إنّ الجمعيّة الوطنيّة الفرنسية تلتئم بشكل دوري، وها هي قد أقرّت قانون الطوارئ الصحيّة بتاريخ 22 آذار 2020، وها هي ستجتمع نهار الثلاثاء في السابع من نيسان لتوجيه أسئلة إلى الحكومة.
أمّا البرلمان البريطاني، فأعتمد نظام الاجتماعات عن بعد عبر وسائل التكنولوجيا، حيث عقدت لجنتا الصحة والمال اجتماعاتهما عبر نظام المؤتمرات المتلفزة.
ألا تستحقّ الأزمات المتتالية التي يتعرّض لها لبنان أن يجتمع مجلس النواب ولو استثنائياً، ليتحمّل ممثلو الأمّة مسؤولياتهم الدستورية والأخلاقية لمواجهة الاستحقاقات المالية والوبائية؟
بالرغم من وجود رزمة من مشاريع القوانين التي تحتاج إلى الإقرار عبر جلسات عامّة، إلّا أنّ المسألة التي تجعل أبواب البرلمان موصدة، هي المسألة الماليّة. بعد نجاح مجلس النواب بإبعاد كأس اتخاذ القرار المناسب بخصوص ديون الدولة الخارجية و"اليوروبوندز"، ها هو اليوم يبتعد عن ملامسة مشروع الكابيتال كونترول (الرقابة على رؤوس الأموال).
هذا الامتناع عن القيام بالتشريع – الشبيه بحالة امتناع السلطة القضائية عن إحقاق الحقّ -، قد فتح الباب على مصراعيه لمصرف لبنان، ليوسّع صلاحياته ويصدر قرارات وتعاميم كناية عن تشريعات جديدة من دون حسيب أو رقيب. هل إنّ التذرّع بحالة التعبئة العامّة يجيز لمصرف لبنان اللجوء إلى تشريع الضرورة؟ أم أنّ غطاء جمعيّة المصارف كافٍ بحدّ ذاته؟
للأسف نواجه ظاهرة ألاعيب مالية منذ بدعة الهندسات الماليّة، وصولاً إلى إصدار التعميمين 148 و149 بتاريخ 3 نيسان 2020. التعميم رقم 148 يتعلّق بالودائع التي لا تتعدّى الخمسة ملايين ليرة لبنانية أو الثلاثة آلاف دولار أميركي، والتعميم رقم 149 يؤسّس بموجبه سوق قطع جديدٍ موازٍ لسوق القطع الرسمي.
باللغة القانونية، إنّ التعميم 148مخالف للقانون ومخالف لأبسط المبادئ القانونية. فهذا التعميم قد فرّق وقسّم ما بين المودعين وحرّر أموال قسم وترك أموال قسمٍ آخر؛ فهو يهدف إلى "تحرير" أموال أصغر صغار المودعين من سجون المصارف اللبنانية. فما لم يقدم عليه مجلس النواب، قد أقدم عليه مصرف لبنان عبر "تعميم" الكابيتال كونترول "لشرعنته" خلافاً للأصول القانونية. إنّ تعاميم الشرعنة قد تؤسّس إلى دور تشريعي جديد لمصرف لبنان، أولى نتائجها إقرار الكابيتال كونترول عبر تعاميم يصدرها حاكم مصرف لبنان منفرداً.
فعلياً، إنّ هذه السياسة المالية لمصرف لبنان تهدف إلى ضمان أرباح المصارف، تحت ذريعة ضمان سعر استقرار الصرف، إلى ما هناك من أرباح وهمية لصالح الخزينة.
فإن التعميم 148 أعطى لأصغر صغار المودعين الحقّ بسحب أموالهم من المصارف، بعد خمسة أشهر من إذلال على أبواب المصارف وبكلفة بحدود المليار دولار أميركي، يتحمّل جزءاً منها مصرف لبنان، حيث أنّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار سوف يعتمد سعر الصرف الرسمي أي 1515، في حين أنّ الدفع سوف يكون وفقاً لسعر الصرف في السوق. وهذا ينتج حالة إثراء غير مشروع، حيث يتمّ "برطلة" أصغر صغار المودعين لامتصاص نقمتهم على الطبقة السياسية الحاكمة وعلى المصارف المتوقفة عن الدفع. ممّا لا شك فيه أنّ هناك تفضيل واضح وعدم تعامل بالتساوي أمام القانون.
يستند تعميم "برطلة" أصغر صغار المودعين إلى المادتين 70 و174 من قانون النقد والتسليف، ويستند التعميم 149 إلى المادة 83 فقرة (ب) تحديداً، والتي تجيز لمصرف لبنان أن يقوم مباشرة في حالات استثنائية وباتفاق مع وزير المالية بشراء العملات الأجنبية من الجمھور وبيعھا منه.
وبذلك يكون مصرف لبنان قد إعترف أنّه تشاور واتّفق مع وزير المالية على الموضوع (وفقاً للمادة 83 من قانون النقد والتسليف)، وتشاور مع جمعية المصارف (وفقاً للمادة 174:"…للمصرف المركزي خاصة بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان أن يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها").
يتذرّع مصرف لبنان بوجود حالة استثنائية ليلجأ إلى استعمال هذه الصلاحية المعطاة له في القانون. لكن في المفهوم القانوني يكون اللجوء للقرارات الاستثنائية بحالات ضيقة ولفترة زمنية محدودة في الزمان والمكان، حيث حدّد تطبيقها لفترة 3 أشهر من تاريخ صدور التعميم.
إضافةً الى ذلك، يرتكز التعميم 148على المصلحة العامة، في حين أنّ تطبيق التعميم يؤدي إلى تفضيل فئة من المودعين على فئات أخرى. فالمصلحة العامة تشمل الجميع ولا تُطبّق فقط على فئة معيّنة. فربط الاستفادة من التعميم بفئة من المودعين لا يشكل مصلحة عامّة، وخاصة أنّ ضرراً يلحق بالمودعين الآخرين الذين بقيت ودائعهم سجينة المصارف.
استند التعميم 148 إلى صلاحيات المصرف المركزي الملحوظة في المادة 174 من قانون النقد والتسليف. إنّ تطبيق هذه المادّة حالياً يفتح الباب لمساءلة مصرف لبنان عن الخمسة أشهر الماضية، عندما أصرّ الحاكم على أنّه ليس لديه الصلاحيات القانونية لإدارة الأزمة وإقرار الكابيتال كونترول. فهل تمّ اكتشاف المادة 174 الآن؟ ولماذا لم يتحرّك مصرف لبنان قبلاً عندما كان الحاكم يصرّ أنّه ليس مخوّلاً التحرك قانوناً لضبط تعامل المصارف مع العملاء؟
استند التعميم 148 إلى مبدأ استمرارية المرفق العام بغية تأمين استمرارية عمل مصرف لبنان. فهل يتوقف عمل مصرف لبنان على عدم قبض أصغر صغار المودعين لحساباتهم؟ فهذا الاستناد من قبل المصرف على مبدأ المرفق العام غير صائب. فمصرف لبنان يتمتّع بشخصيّة معنويّة مستقلّة عن الدولة، وهو من أشخاص القانون العام ومن المؤسسات التجارية والصناعية غير الادارية التي تتمتع بطبيعة قانونية خاصة، وهو يبقى خاضعاً لرقابة القضاء الاداري في ما يتعلّق بالقرارات الادارية التي يتخذها إزاء المؤسسات المصرفية والمالية الخاضعة لرقابته (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 195/1995، تاريخ 20/12/1995). وبالتالي، إنّ قراراته الإدارية تخضع لرقابة مجلس شورى الدولة وقابلة للطعن، ولا تُطبّق بشأنها المادة 13 من قانون النقد والتسليف، التي تنصّ على أنّ محاكم بيروت دون سواها هي الصالحة للنظر في "جميع النزاعات بين المصرف والغير" (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 302/1985، تاريخ 23/12/1985). وبالتالي، كلّ متضرّر من تعميم صادر عن مصرف لبنان، بإمكانه مراجعة مجلس شورى الدولة.
أضف إلى ذلك، أنّ تحديد التعميم 148 فئة الحسابات التي لا تتعدّى سقف الخمسة ملايين ليرة ليس اعتباطياً، حيث تشكّل 61% من مجمع الحسابات المصرفية، وهذا من شأنه أن يخفف الضغط على مؤسسة ضمان الودائع بحال إفلاس بعض البنوك، ويخفّف الاحتقان الشعبي. فهل نحن أمام سيناريو إفلاسي يقضي بالتخلّص من أصغر صغار المودعين الذين هم الأغلبية؟
إنّ مؤسسة ضمان الودائع تضمن الودائع بحال إفلاس أو توقّف المصارف عن الدفع من الناحية القانونية (de jure) وليس الافلاس الواقعي (de facto) كما هو حاصل حالياً، حيث هي متوقفة عن الدفع من دون أيّ مسوّغ شرعيّ. إنّ هذا الضمان كان قبل إقرار موازنة 2019 محدّداً بخمسة ملايين ليرة ليصبح اليوم خمسة وسبعون مليون ليرة. لكن هذه الزيادة هي غير واقعيّة، حيث أنّ زيادة الضمان تتطلب زيادة رأسمال المؤسسة، وللأسف هذا لم يحصل.
تجدر الإشارة إلى أنّ المؤسسة الوطنية لضمان الودائع هي "مؤسسة مختلطة تُسهم فيها الدولة وجميع المصارف العاملة في لبنان، من خلال رسم تدفعه المصارف قيمته 0,5 إلى 1,5 في الألف عن كل وديعة بالليرة اللبنانية، على أن تساهم الدولة بمبلغ يعادل مجموع مساهمات المصارف". ولكنّ الدولة تتخلّف عن دفع مستحقاتها للمؤسسة منذ العام 2010. والملفت للإنتباه، أنّه تم استثمار أكثرية رأسمال هذه المؤسسة في سندات دَين مصرف لبنان (بالتحديد 6,7 مليار دولار بين مؤسسة ضمان الودائع والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) . فهل يعلم المودعون أنّه قد يترتب على عدم دفع اليوروبوند اختفاء الأموال التي كانت ستضمن الودائع؟
من مقررات مجلس الوزراء تاريخ 26 آذار 2020، تكليف وزير المالية اتخاذ ما يلزم من إجراءات مع مصرف لبنان ومع الجهات ذات الصلة بهدف القيام بعملية تدقيق محاسبية مركّزة، من شأنها أن تبيّن الأسباب الفعلية التي آلت بالوضعين المالي والنقدي إلى الحالة الراهنة، إضافة إلى تبيان الأرقام الدقيقة لميزانية المصرف المركزي وحساب الربح والخسارة ومستوى الاحتياطي المتوافر بالعملات الأجنبية.
بالرغم من أنّ هذه الخطوة ضروريّة – وإن جاءت متأخرة -، إلّا أنّ تنفيذها يبقى رهينة نيّة القيّمين على عملية التدقيق وعزمهم على الرقابة والمحاسبة. إنّ التدخلات السياسية مؤخراً في ما خصّ "التعيينات المالية" تؤشّر إلى هيمنة السياسيين على المؤسسات المالية للدولة. وأبعد من المحاصصة، إنّ القرار السياسي اتّخذ بعدم المسّ بالحوكمة الحالية لمصرف لبنان لتبقى "هندساتها المالية رافعة مالية ونقدية واقتصادية" (حسب المنشور الدائم على الصفحة الرئيسة للموقع الالكتروني لمصرف لبنان، بانتظار منشورٍ جديد يلحظ أنّ مصرف لبنان يشكّل رافعة تشريعيّة عند الضرورة.
*محامٍ دولي وأستاذ جامعي
TEST