أزمة كورورنا فرصة للتعقل ودعم القطاع الحكومي وإنقاذ الوطن
بقلم د.محمد خليفة
وقعت الكارثة .وهذا لا يعني أن العالم كان يعيش في رفاهية مستدامة كما أن الوباء الجائح والجامح وعجز الأنظمة الصحية في العالم عن مواجهة تداعياته الخطيرة لا يعني أن أغلب الدول كانت تؤمن الدواء والإستشفاء لمواطنيها بشكل دائم. فالعالم كان في الأساس يعيش طبقية مجحفة ،وكان التوزيع الظالم للثروة داخل كل دولة ينهش في لحم الفقراء ويقترب من تدمير الطبقة الوسطى ويحجب أي بارقة أمل في عالم تسوده العدالة والتكافل واستيعاب الدروس من التاريخ، أن الأغنياء إذا إرادوا التنعم في ثرواتهم وبذخهم عليهم أن يتركوا للفقراء قوت يومهم ،وأي اختلال في هذا الاستيعاب ،قادر على قلب الموازين الكونية ما يسهل تدمير الأنظمة القائمة بكل أساسياتها وتفرعاتها المعيشية.
كما أن الدروس ذاتها حتمت الالتفات لتداعيات التفاوت الصحي بين الشعوب وداخل المجتمعات والمناطق في الدولة الواحدة، ما يعني أن هذا التفاوت لن يتأخر كثيراً لتدمير الأنظمة الصحية برمتها ،ويؤدي النقص في الغذاء والدواء في منطقة ،إلى تفشي الجوع والوباء في باقي المناطق.
ماذا يعني ذلك في أزمة فيروس كورونا؟
أولاً: لقد فشلت منظمة الصحة العالمية في توحيد الجهود لمكافحة جائحة كورونا ،بحيث امتلأت الصحف والمجلات والقنوات والإذاعات بقراءة تداعيات تلك الأزمة الكونية، وذهب الخبراء إلى تقييم وضعية الدول وأرقام إصاباتها ووفياتها وكيفية تصديها للأزمة الصحية العالمية، وبرز بشكل واضح وفاضح اختلاف التعاطي مع الوباء بالرغم من تصنيفه وباءً عالمياً من قبل منظمة الصحة العالمية ،بحيث عمدت كل دولة إلى اتخاذ إجراءات خاصة بها ،وتفاوت التعاطي مع أخطر أزمة صحية تواجه العالم منذ زمن بعيد. وهذا ما جعل بعض الدول تلتحق بدول أخرى سبقتها في اتخاذ إجراءات تبين أنها فعالة، وهذا يؤشر إلى فشل تلك المنظمة في توحيد الإجراءات وتنسيقها لمكافحة الفيروس لتجنب مخاطر تفشي الوباء ،على أن يكون في صلب تلك الإجراءات تقديم المساعدة للدول التي تتميز بضعف أنظمتها الصحية. وهذا الأمر يعتبر في غاية الأهمية كونه يخفف من انتقال العدوى بين الدول في مرحلة لاحقة ،نظراً لتداخل الشعوب في ظل العولمة التي أتاحت الإندماج بين المجتمعات بنسبة كبيرة، ما يجعل أي تجاهل لتقبل هذا الأمر بمثابة انتحار جماعي للدول، لن يعود ينفع معه الإنعزال التام نظراً للاحتياجات المتبادلة بين الدول، ما يعزز نظرية المقايضة التي سقطت يوماً ما في ظل الانتشار الهائل للمبادلات التجارية التي ألغت الحدود السياسية والجمركية، ورسخت مفهوم الشركات المتعددة الجنسية وتداخل العلاقات الاقتصادية الدولية التي هيمنت على العلاقات السياسية وتربعت على عرش الاقتصاد العالمي وهمشت الدول الصغيرة ومنعتها من الإفادة من المواد الأولية التي غذت صناعات الدول المتقدمة ،وأوقعت الدول النامية في مديونية عطلت أنظمتها الاقتصادية واستنزفت مواردها البشرية الباحثة عن مكان آمن في الدول الغنية ،ما جعل الخروج من الأزمة ضرباً من المستحيل.
ثانياً: نتج عن فيروس كورونا سقوط النظام الاقتصادي العالمي وانهارت معه التحالفات الدولية والتكتلات الإقليمية، بحيث انصرفت كل دولة منفردة إلى معالجة تفشي هذا الفيروس، واتخذت الإجراءات التي تناسبها من إغلاق للحدود أو للمطارات ،من دون التنسيق مع الدول الأخرى التي تجتمع معها في تكتل أو اتحاد يحتم اللجوء إلى خطوات موحدة تخفق من وطأة الفوضى والتخبط التي حدثت نتيجة الخطوات الأحادية التي لم تراع أوضاع وظروف الدول الأخرى، ما جعل من صمود هذا الاتحاد أو التكتل أمراً صعباً بعد انتهاء الأزمة. وما يؤكد ذلك قيام بعض الدول بطلب المساعدة من دول ظلت لفترة طويلة على تنافس اقتصادي أو سياسي نتيجة خضوع هذه الدول لمعايير الهيمنة التي تمنع التقارب خارج مظلتها أو منظومتها الرأسمالية، وكل ذلك يقود إلى نتيجة واحدة هي سقوط منظومة العديد من الدول بعد ثبوت الفشل الذريع في التصدي للأزمات ،وغياب النظام الجماعي للمواجهة وتبني مبدأ المواجهة الاستنسابية التي تطيح بكل أشكال التكتل والتوحد ومعايير الجغرافيا الواحدة التي ييدو أن التاريخ عجز عن حمايتها ،ولا أحد يعلم مصيرها بعد معالجة تداعيات أزمة كورونا.
ثالثاً: لقد ظهر على المستوى الداخلي هشاشة النظام اللبناني بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، وبرز بشكل كبير نجاعة دعم القطاع الصحي الحكومي في ظل تردد القطاع الاستشفائي الخاص في المشاركة بطريقة فعالة لمواجهة أزمة كورونا خوفاً من استنزاف هذا القطاع لكادره الطبي وصعوبة الفصل بين الحالات الطبية وتجنباً لمخاطر انتقال العدوى، وهذه إشارة سلبية أعطت صورة ضبابية لأهداف هذا القطاع من تخلفه عن تكثيف حضوره في صلب المواجهة وجعلته يدمر سمعته الطبية وإظهاره في موقع التاجر المتردد في عقد صفقة معينة ،دون الالتفات لخطورة الوضع الصحي الذي يدمر صحة الإنسان ويعرضه للخطر بحال عجز النظام الصحي عن الاستجابة نتيجة الضغط الكبير لحالات الوباء في مراحل لاحقة .وما يهمنا أن نركز على صوابية الاستثمار في القطاع الصحي الحكومي وتطوير خدماته ومنافسة القطاع الصحي الخاص في جودة الاستشفاء ما يساهم في تخفيف الكلفة الباهظة التي يفرضها احتكار المستشفيات الخاصة لأنواع كثيرة من الخدمات الطبية وبأسعار خيالية. وهذا يستدعي مواصلة دعم المستشفيات الحكومية ورفدها بخبرات وكادرات طبية وتمريضية متخصصة.
وهنا يمكن للجامعة اللبنانية التي تطوع طلابها لمساندة الطاقم الطبي الحكومي أن يكون لها دور كبير في بناء الثقة بالمستشفيات الحكومية عبر توأمة تلك المستشفيات مع كلية الطب في الجامعة، وكسر هيمنة الجامعات الخاصة التي تعتمد على مستشفياتها الجامعية في تطوير مناهج الطب وتأمين فرص عمل لخريجيها من كليات الطب. وهذا الأمر قد يكون نموذجاً صالحاً لانخراط الجامعة الوطنية في العديد من المرافق الحكومية التي يعمد المسؤولون الرسميون لتهميشها سعياً لخصخصتها وبيعها بأبخس الأثمان، ما يكرس منظومة الفساد الهادفة إلى تدمير القطاع العام بالرغم من إرهاق خزينة الدولة في سياسات الهدر المنظم ،وإفراغ هذا القطاع من الأكفاء عبر التوظيفات الزبائنية والانتخابية والسياسية ،وضرب إنتاجيته وإظهاره ضعيفاً تمهيداً لعرضه للبيع. وما قطاع الكهرباء إلا عينة واضحة لطريقة التعاطي مع المؤسسات العامة والالتفاف عليها بقوانين الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو خصخصة الإدارة في قطاعات منتجة مثل قطاع الاتصالات بشقيه الثابت والخليوي. وهذا ما يعزز قيام الجامعة الوطنية برفد قطاعات الدولة بكوادرها العلمية المتخصصة في تلك القطاعات .
فما الذي يمنع من توظيف خريجي كلية الهندسة باختصاصاتها المتشعبة في قطاعات عديدة، ومنها الاتصالات والكهرباء والصناعة والاهتمام بالقطاع الزراعي عبر دعم كلية الزراعة وقيام المهندسين المتخرجين منها بتطوير هذا القطاع وتنميته؟
وما الذي يمنع كليات إدارة الأعمال من المساهمة في بناء قطاع مصرفي حكومي ينافس القطاع المصرفي الخاص الذي دمر ثقة المودعين به نتيجة تفريطه في ودائعهم وتوظيفها في مجالات عالية المخاطر ،تؤدي إلى خسارتها عند أي أزمة اقتصادية أو مالية داخلية كانت أو خارجية. وكل ذلك يقود إلى تطوير مناهج الجامعة الوطنية واستقطاب الكادر التعليمي المتخصص بعيداً عن التجاذبات السياسية التي تتحكم بمفاصل الجامعة، وتخفيف الهيمنة الحزبية على هذا المرفق الحيوي الذي ينتظر منه المساهمة في حل الأزمات الوطنية التي وقع فيها لبنان ولا زال يحاول الخروج منها ،بالرغم من تعقيدات أزمة كورونا التي لا شك ستؤثر وتؤخر الانتهاء من تداعياتها على الحلول المرتقبة للمعالجة الشاملة لجميع المشاكل التي جعلت الناس تفقد ثقتها بالطبقة السياسية وأحزابها، وتخرج في ثورة إنسانية للمطالبة بأبسط حقوق العيش بعد تفشي فيروس الفساد الذي ضرب البلاد منذ عقود من الزمن ،وقضى على خيراتها وكفاءاتها ومقدراتها.
ولعل معالجة أزمة الوباء تشكل الأولوية للحكومة الجديدة التي يمكنها الإفادة من مواجهتها للوباء ،والمضي قدماً في اجتثاث منظومة الفساد ومباغتة القوى السياسية التي سمتها ،وكذلك القوى المعارضة في تنفيذ رؤيتها وإثبات صدقيتها وجديتها للخروج منتصرة في معركة إنقاذ الوطن.