هدى سويد ـ إيطاليا
فيما تستعيد إيطاليا أنفاسها وتستعد لتاريخ الرابع من أيار/ مايو كمرحلة ثانية لفيروس كوفيد 19، تصدرت الواجهة أنباء مسألتين تتعلقان بأمرين أود التحدث عنهما ،بعدما تناولتُ إيطاليا بمواضيع شتّى سابقا خلال انتشار وباء الكورونا المستجدة :
الأولى تتعلق بكم المسنين الذين ماتوا شمالا تحديدا في ظروف غير طبيعية في بعض بيوت الرعاية الاجتماعية ، علما أنه يصح القول في هذه المناسبة أن القضية هذه غير محصورة في إيطاليا ،ويوميا تتناقل وسائل الإعلام حالات مشابهة في كل من أميركا ، إنكلترة ، كندا كما إسبانيا والسويد.أما الثانية فتتعلق بجنازة نابولي جنوبا .
المسألة الأولى التي تناقلتها وسائل الإعلام عن وفاة عدد هائل من المسنين (ولا أرغب الدخول في الأرقام التي اختلفت ودُمجت على الأرجح ما بين الموت الطبيعي والعكس صحيح ، سواء على مستوى المسنين أو غيرهم من الضحايا الذين لم يُفصل ما بين إصابتهم بالكورونا أو لأمراض مختلفة ) في العديد من دور الرعاية الاجتماعية في مناطق مختلفة وتحديدا ميلانو ، التي يُفترض أن تكون عاصمة الشمال الصناعية المتطورة الغنية، وبالتالي أن تكون في موقعها هذا أكثر حرصا على مواطنيها ، لكن ما حصل في دار "بيو فندق تريفولزيو " أزاح الستار عن تفاصيل بشعة لا تمت للإنسانية بصلة ، إنما تصب في مصاف الجشع الذي ترجم بكل تفاصيله كيفية تحويل الخدمة الإنسانية إلى تجارة متوحشة دون رادع ، يجد معها المُسن أو المُعاق نفسه مسلوبا من رحمة الذين عهد إليهم حياته، ومحروما من العناية المُفترضة غير المجانية بل مقابل مبلغ مالي مُرتفع .
هو واقع لمسألة ليست بالجديدة محليّا .ففي العام 1992 حصل أمر مُشابه ، وغالبا ما تكرر هذا الأمر في عدد من الدور فيما مضى ، مقترنا في أحوال كثيرة بأساليب التعذيب التي تُمارس بحق العجزة، وكان يتم عرض صور لما تم وضع اليد عليه من قبل الجهات الأمنية والقضائية ،من خلال الكاميرات المُلزمة بها مؤخرا هذه المؤسسات ،ويتم بثّها على شاشات التلفزة ،مُلقية الضوء على فظاعة سوء المعاملة داخلها، سواء شمالا أو جنوبا وخارج الحالة الراهنة للكورونا ، وإن كانت الأخيرة الطلقة التي نقلت إلى حيز الضوء والحقيقة الفضيحة الإنسانية بشكل أوسع ، نظرا لعدة أسباب أبرزها رقم الإصابات الكبير، ما دعا السلطات المسؤولة والمُكلفة ،إلى فتح تحقيقات واسعة في الدار الآنف أعلاه. كما شملت أخرى بما فيها أطباء، ممرضون ومحامون وممن يملكون أدلة، في مقدمهم عائلات عدد من الضحايا كما العاملين فيها .
ما حصل في لومبارديا ، أي الإقليم الشمالي الأكثر تضررا بالكورونا الذي تقع فيه مدينة ميلانو كما إقليم فينيتو ناهيك عن أقاليم جنوبية أخرى ، تبين حسب رئيس الهيئة العليا الصحية "سيلفيو بروسافيرو" من خلال التحقيقات الأوليّة أن حوالي 164 مؤسسة من أصل 677 التي يُفترض أن تعمل على رعاية المسنين أو المُعاقين ، هي مراكز غير شرعية تجارية تتقاضى مبالغ باهظة لإيواء المريض دون توفر الجهاز المختص .
أما الفضيحة التي أودت بحياة العدد الهائل من المسنين الذين تراكمت نعوشهم في كنيسة الدار من دون إمكانية دفنهم أو إشعار أهاليهم ، بدأت ذيولها منذ أوائل نيسان /أبريل، بوشربعدها عبر الأجهزة المختصة بملاحقة ما يحصل ، بعدما أكد نائب وزير الصحة بيار باولو سيليري في الحادي عشر من الشهر نفسه ،مُلخصا أنه من غير المقبول ما يحصل داخل دار "بيو" ، استنادا إلى معلومات تلقاها من عائلات مرضى ، منهم سيدة قالت أنها تواصلت هاتفيا بكلمات قليلة مع شخص قال" أنه والدها ثم أجهش بالبكاء لينقطع الخط بينهما ". وتبين فيما بعد أن والدها كان توفي منذ ما قبل المكالمة ! لكن ما قصم ظهر البعير واضعا الحقائق في مجراها كان ما نقله إبن لمريضة بالزهايمر لنائب وزير الصحة ( تم عرض المقابلة البارحة مع الإثنين ) بأنه تم حصر والدته في غرفة ضيقة بسبب استقبال الدار لعدد كبير من المرضى المُصابين بكوفيد 19 " .
وفي دراسة للدار المشبوه بها تبين من جهة أنها وضعت مصابين بالفيروس جنبا إلى جنب مع المسنين والمعاقين ، وهي معلومات يدافع عنها رؤساء الأقاليم مشيرين الى أنه " تم الإستعانة بالدور لأن الأسرّة لم تعد متوفرة للمصابين " ،وهو عذر أقبح من ذنب ، وإن كان من الضروري لفت الإنتباه إليه أن أبواب الدور لم تقفل أمام الزيارات إلاّ في الثالث من نيسان / أبريل ما قد يكون عاملا في نقل العدوى إلى المسنين .
من ناحية أخرى استخدم عدد من المراكز عاملين لا علاقة لهم لا بالطب ولا بالتمريض لمعاينة المسنين ، كما لم يؤمّن المسؤولون فيها لمصابي فيروس كورونا الأجهزة الطبيّة اللازمة ،كالتنفسية وعداها ، ناهيك عدم التزامها بارتداء الرداء وانتعال الحذاء المعقّم وكذلك عدم تقيدهم بالكمامات ، النظارات والقفازات إلخ.. ما أوقع ضحايا أيضا بين الفريق العامل نفسه من ضمنهم طبيب .
هذه الصورة القاتمة لا يمكن بالطبع تعميمها .ففي "كومو" مثلا لم تحدث حتى حالة وفاة طبيعية بين المسنين في هذه الفترة ،ولم تشر المعلومات لإصابة واحد منهم بفيروس كورونا . لكن إزاء ذلك يقف المرء حيال ما يجري بقلب مجروح على المسنين الذين يُتركون بين أيدي قتلة دون مراقبة ، مُسنون هم ذاكرة وطن ،وكما قال أحد أبناء الضحايا "من يعمد إلى قتلهم كمن يحرق مكتبة " ،وهذا صحيح بكل ما لعمق كلمة مسن من معنى . ويجد المرء نفسه أما م خوف يعتريه من أن تكون نهايته لسبب أو لآخر في كابوس دار يديره تجار دون رأفة.
فضيحة الجنازة
أمّا الأمر الثاني فيتعلق بالفضيحة الثانية المتعلقة بجنازة أُقيمت في بلدية "سافيانو" بمحافظة نابولي جنوبي إيطاليا ، في وداع رئيس البلدية السابق، وبرغم كل ما ودّعته إيطاليا من ضحايا ودفنها كما حرقها للعديد دون مرافقة عائلاتهم ومحبيهم ، حتى أن العديد من أفراد الضحايا لا يعرف كيف وأين انتهى جثمان فقيدهم ، ورغم الحظر المفروض رسميا بسبب انتشار وباء كوفيد 19 سواء على مستوى التجمعات وغيرها ، من المخزي أن نجد رئيس البلدية الحالي الموشح بالعلم الوطني ، يدعو انطلاقا من الإحترام المزيف للميت، الى حفل وداع جنائزي عرّض فيه المواطنين إلى خطر الإصابة بالوباء ضاربا عرض الحائط قرارت الحكومة بمنع التجول ..وكان من نتيجة ذلك وضع رئيس إقليم كامبانيا البلدة ككل ضمن الحجر لغاية 25 نيسان/أبريل ، وهذا هو "التوديع الثاني " للأسف الذي لا يحترم فيه المواطن في هذه المنطقة القرارات الرسمية ، وكانت ثمرتها إصابة حوالي 30 من المُشيعين بالفيروس.
في هذا الصدد لا يُمكن القول سوى أن رئيس بلدية من هذا النوع يجب أن يُحاسب لا بعزل المنطقة وحسب بل عزله من مهامه ومن منصبه وهو من المستبعد .