كتب واصف عواضة:
لا يحتاج ما حدث بالأمس في سوق النفط الى خبير نفطي استراتيجي لتفسير وشرح هذا الانهيار غير المسبوق في الأسعار ،والذي يكاد يشبه "نكتة سمجة" أطلقها ناشط ساخر عبر وسائل التواصل الاجتماعي،لدرجة أن الناس لم تستوعب مثل هذا الحدث الكبير.لكن أي مراقب أو متابع للواقع الدولي منذ أشهر ،يمكنه أن يضع يده على الأسباب المنطقية لهذا الانهيار الذي تآلفت معه مجموعة مشاكل ففرضت هذا الحدث الكبير.
باختصار،وبكل تبسيط، هناك ثلاث مشاكل فرضت نفسها على سوق النفط ،أمعن وباء كورونا في تفاعلها ،فضلا عن عناد غير محسوب لبعض الدول النفطية الكبرى :
1- مشكلة استهلاك:
لا يخفى على أحد أن وباء كورونا الذي انتشر على نطاق عالمي ،قيّد الحركة السكانية والإنتاجية في العالم بشكل لم يسبق له مثيل.وتؤكد التقارير أن 60 بالمائة من سكان العالم يقبعون في منازلهم منذ بداية شهر نيسان الحالي ،فضلا عن توقف الإنتاج في المعامل والمصانع والمؤسسات التي تعتمد الطاقة النفطية لتسيير آلياتها .وهذا الأمر أدى الى تراجع استهلاك النفط بنسبة لا تقل عن سبعين بالمائة في العالم ،وعكس تراجعا ملحوظا في الطلب على الذهب الأسود.
2- مشكلة إنتاج:
في ظل تراجع الاستهلاك والطلب ،لم تتراجع نسبة الإنتاج العالمي ،حيث فشلت منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" على مدى أكثر من شهرين في التوصل الى اتفاق على تخفيض الإنتاج نتيجة الخلاف بين المملكة العربية السعودية وروسيا ،وهما أكبر المنتجين،ورفض الطرفين تخفيض انتاجهما ،مع العلم أن روسيا ليست عضوا في ال"أوبك".وعندما تم التوصل الى نوع من التفاهم قبل أسبوع لتخفيض الإنتاج بين عشرة وعشرين مليون برميل ،كان قد سبق السيف العذل ،حيث غرقت الأسواق بالبترول وامتلأت الخزانات بالمادة ،ولم يعد من مجال للمزيد.
3- مشكلة تخزبن :
كان من الطبيعي مع وفرة الإنتاج وتراجع الاستهلاك كما أسلفنا أن تنشأ مشكلة تخزين .وعليه باتت عقود شهر أيار التي يفترض تسليمها للموزعين والمشترين في شهر نيسان تشكل مشكلة كبيرة للمنتجين ،خاصة في الولايات المتحدة ،ما دفع هؤلاء الى إنذار المشترين بموجب عقود أيار.ومع انتهاء المهلة كان من الطبيعي أن يسارع أصحاب العقود الى عرض عقودهم للبيع دفعة واحدة ،فكان الانهيار المتسارع في الأسعار خلال ساعات ووصل الى ما وصل اليه بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ.
هل يعني ما تقدم أن أسعار النفط ستشهد انهيارا طويل الأمد شبيها بما شهده الأمس؟
من الصعب الإجابة على هذا السؤال قبل تبلور المشاكل الثلاث السالفة الذكر.صحيح أن عقود شهر أيار هي التي شهدت هذا الانهيار المذهل ،لكن عقود حزيران ما زالت تحافظ على أسعار معقولة في مستوى العشرين دولارا للبرميل .إلا أن هذه العقود ليست مضمونة إذا لم تتم معالجة المشاكل الثلاث .
وهنا يقول الخبراء المختصون أن توازن السوق يتطلب أولا إتفاقا عالميا على تخفيض الإنتاج بنسبة لا تقل عن ثلاثين مليون برميل يوميا ،كما يتطلب تراجعا في مؤثرات جائحة كورونا بما يحسن حركة الاستهلاك ويعالج مشكلة التخزين أيضا.
إلا أن الخبراء والمحللين يجمعون على أن استقرار سوق النفط يتطلب وقتا طويلا ربما يحتاج الى سنوات ،هذا اذا لم تطرأ تطورات ليست في الحسبان حتى الآن.أما النتائج الكارثية الناجمة عن هذا الاضطراب فهي لا شك كبيرة جدا على الدول النفطية والاقتصاد العالمي،إلا أنه من المبكر تحديد هذه النتائج.
في الخلاصة ،إن ما حصل بالأمس طال مبدئيا عقود شهر أيار التي سعى المشترون الى التخلص منها بخسائر فادحة ،لكن عقود حزيران وما بعده تبقى في علم الغيب ،وإن كانت سوق النفط قد شهدت زلزالا لا يمكن تقدير نتائجه في المدى المنظور.