كتب حلمي موسى من غزة:
تواجه إسرائيل وحكومتها كما هائلا من المشكلات السياسية والأمنية، الاقتصادية والاجتماعية، التكتيكية والاستراتيجية، لكنها مع ذلك تقف معاندة نفسها والواقع وكل العالم.
وأمس نشر التلفزيون الإسرئيلي خبرا عن انتظار كل قادة الجيش والأمن في إسرائيل ظرفا مناسبا كي يعلنوا استقالتهم من مناصبهم وتحمل تبعات الفشل في 7 أكتوبر. والحديث يدور عن رئيس الأركان ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ورئيس الموساد ورئيس الشاباك. وقد أعلن كل هؤلاء تحملهم المسؤولية عما جرى في “السبت الأسود” كل في نطاق عمله.
ولكن تقريبا لم يتبرع أحد في القيادة السياسية، خصوصا نتنياهو، بإعلان استعداده لتحمل المسؤولية ،وتذرع كل منهم بذرائع شتى أهمها أن الاخفاق كان أمنيا. لكن الجمهور الإسرائيلي، وفق استطلاعات الرأي الأخيرة، قال كلمته تجاه هذه القيادة وأدائها قبل الحرب وأثناءها. وشهد استطلاع نشرته “إسرائيل اليوم” ،وهي الصحيفة التي أنشئت خصيصا لدعم نتنياهو عن عجزه على كسب المعركة الانتخابية المقبلة ،وأن آخرين في حزبه أقدر منه على كسب مقاعد أكبر لليكود واليمين.
وأشار الاستطلاع مثلا إلى أن زعامة نتنياهو في الليكود تتضعضع بشكل دراماتيكي. وعلى سبيل المثال فإن أحد منافسيه وزير الاقتصاد نير بركات يمكن أن يحصل على مقاعد لليكود متساوية مع ما سيحصل عليه نتنياهو. ولكن يوسي كوهين، الذي أنهى خدمته كوزير للخارجية، سيحقق لليكود عددا اكبر من المقاعد يصل الى 22 مقعدا. والأمر لا يتعلق فقط بالليكود إذ أن استطلاع الصحيفة اليمينية أظهر أيضا أن حزب غانتس يكاد يحقق مقاعد ضعف الليكود تقريبا ،وأنه لا فرصة البتة لأحزاب اليمين الحالية في تشكيل ائتلاف حكومي يميني إذا جرت انتخابات جديدة.
ومع ذلك يواصل نتنياهو صداماته، أولا مع وزير حربه يؤآف غالانت ،في معركة الزعامة وثانيا مع الإدارة الأمريكية بشأن اليوم التالي، وبعدها مع الجمهور الإسرائيلي في معركة تحرير الإسرى وأخيرا مع الشعب الفلسطيني لمنعه من الحرية والاستقلال.
وأمس كتب بن كسبيت في “معاريف” أن المعركة بين وزير الدفاع ورئيس الحكومة تتجاوز كل الحدود، وتجلب روح روضة الأطفال إلى الغرف التي تجري فيها حرب المختطفين ويوم السبت. وإذا تمت الصفقة أم لا، فإن أيام الحكومة بشكلها الحالي أصبحت معدودة. وفي نظر كسبيت فإنه تم هذا الأسبوع تقديم التماس إلى المحكمة العليا بشأن عزل نتنياهو عن القيام بواجباته. الالتماس غير ضروري. نتنياهو يتعرض للعزل منذ فترة طويلة. لا يوجد أحد في حكومته لا يعرف ذلك. هناك لا أحد من حوله لا يفهم هذا. من الواضح أن الرجل غير كفؤ. فهو ملوث بتضارب المصالح المتأصل، متميز، متطرف. إنه منفصل عن الواقع.
وفي نظره نتنياهو يخطئ في الهلوسة والأوهام، ويتأرجح بين الهوس والاكتئاب، ويتقاذف بين الأمواج والأزمات كسفينة بلا أشرعة ولا صواري ولا دفّة. لا يوجد سوى مرساة واحدة لهذا الرجل في الوقت الحالي: غريزة البقاء اليائسة التي يجب أن يضاف إليها شهوته وعائلته الأبدية للسلطة.
وأكد كسبيت أن إزاحة نتنياهو، وهو هدف يجب على كل وطني إسرائيلي أن يكرسه. إن مسار تعذر قدرته عن أداء مهامه مسار ملتو ومثير للجدل ويخلو من أي سند دستوري منظم. النخر هو آخر شيء نحتاجه لتمزيق الأنسجة الرقيقة التي تراكمت هنا. يحتاج نتنياهو إلى إخراجه من المجمع الحكومي الإسرائيلي بطريقة ديمقراطية: انتخابات مبكرة، أو انعدام الثقة البنّاء، أو خيبة الأمل داخل الليكود، أو احتجاج جماهيري لم يحدث من قبل، لكي نتصور كل هذا. تقترب اللحظة التي سيتعين علينا فيها العودة إلى احتجاج ديمقراطي قوي وبعيد المدى لنوضح لهذا الرجل، ولمجتمع القانون المحلي التابع له ولعائلته أن هذا هو ما حدث، لقد وصلنا إلى النهاية. نهاية المسار انتهى.
وأشار ألى ما نشر عن ترف نتنياهو وزوجته بترميم مسبح على حساب الدولة حتى في خضم أصعب حرب في تاريخنا، منذ حرب الاستقلال. ويعيش مئات الآلاف من اللاجئين في بلادهم في غرف فنادق وحلول مؤقتة. ولا يزال 136 مختطفاً، بينهم نساء وشيوخ ومرضى، يقبعون في أنفاق حماس بغزة. يواصل الجيش الإسرائيلي القتال والجنود يواصلون السقوط. الجنوب والشمال مهجوران. لقد حول حزب الله خط الحدود إلى نطاق خاص. الاقتصاد يئن والبطالة في ارتفاع والكساد الوطني يرتفع ولا أحد يرى أي بصيص من الأمل أو ضوء في نهاية النفق.
بعد ذلك ينتقل كسبيت إلى ما يعتبره القضايا الخطيرة: أرسل مجلس الوزراء جميع الأسلحة الثقيلة إلى الاجتماع في باريس: رئيس الموساد ديدي برنيع، رئيس الشاباك رونان، اللواء نيتسان ألون. كان هذا إعلان نوايا بشأن جدية الحكومة الإسرائيلية في التوصل إلى اتفاق. ذهب الثلاثي بتفويض وطرحوا اقتراحا إسرائيليا. وجلسوا أمامهم. ولا تقل الأسلحة الثقيلة: رئيس وكالة المخابرات المركزية، ورئيس المخابرات المصرية، ورئيس الوزراء وزير خارجية قطر. إن حياة 136 إسرائيلياً على المحك، معظمهم من المدنيين الأبرياء الذين تخلت عنهم بلادهم وجيشها ليوم كامل في أكتوبر الماضي. الحكومة الإسرائيلية، جيش الدفاع الإسرائيلي، الشرطة، كل هؤلاء كانوا “لا يوجد نظير لهم. لقد ألقيوا للكلاب. الآن يجب إعادتهم. إسرائيل لن تكون نفس الدولة إذا لم تقم بهذه المهمة. سوف تصبح دولة وهمية. الاقتراح الإسرائيلي معقول: خطوة أولى في الطريق”، حيث سيتم إطلاق سراح النساء (بما في ذلك المجندات)، والبالغين والمرضى، وتم اختطاف 35 شخصًا لمدة 35 يومًا من الراحة (مع خيار مواصلة المفاوضات لمدة أسبوع آخر). وفي النبضة الثانية سيتم إطلاق سراح الجنود وأفراد الصفوف الاحتياطية والشباب. وفي الضربة الثالثة جثث. ما لم تتم مناقشته بعد، ولم يتم التطرق إليه بأي شكل من الأشكال، هو عدد السجناء الذين سيُطلب من إسرائيل إطلاق سراحهم. وفي كل الخطط والسيناريوهات تم الاتفاق على عدم الحديث عن هذا الرقم. ويتركون الأمر مفتوحا وغامضا حتى ترد حماس على الاقتراح الإسرائيلي.
وماذا فعل نتنياهو؟
على الفور أصدر بيانا علنيا بصوته قال فيه “لن نطلق سراح آلاف السجناء”. أي أنه طرح مسألة الأرقام على الطاولة بصوته ومبادرته. لقد انتهك كل الملخصات، وركل خطة العمل، وسخر من استراتيجية التفاوض التي صيغت.
وانفجر الأميركيون في وجهه، كما فعل كثير من الإسرائيليين، وأبدت “عناصر محترفة” في فريق التفاوض حيرتها واستغرابها من كلام نتنياهو. ناهيك عن أنهم عبروا عن غضبهم ودهشتهم. ما الذي كان يدور في ذهنه بهذه الإعلانات الطفولية وغير الضرورية؟ ما هو انه يحاول القيام به وسمع عدد كبير من المسؤولين، للمرة الأولى، يتحدثون عن نتنياهو كشخص غير جدير وغير قادر، ولا أحد يفهم ماذا يفعل وإلى أين يهدف. وكل هذا عندما نكون في حالة حرب.
وكشف كسبيت النقاب عن أنه في اجتماع المجلس الوزاري قبل الأخير لبحث الصفقة عرض الموساد وأجهزة الاختصاص بالتعاون مع رئاسة الحكومة وثيقة مفصلة على الوزراء تمهيدا لصفقة التبادل. لكن لم يتم اطلاع وزير الدفاع ولا طاقم وزارته ولا قيادة الجيش على هذه الوثيقة مسبقا ولم يطلعوا عليها إلا في الاجتماع. وكاد غالانت أن ينفجر غضبا خصوصا أن وزراء المعسكر الرسمي كانوا على اطلاع على الوثيقة. وبدأت معركة بين نتنياهو وغالانت خرجت في نظر كسبيت عن كل اعتبار. وتفاقم غضب غالانت على رئيس الموساد الذي بات يعادي الوزير لمصلحة نتنياهو. والمشكلة هي أن الصراع بينهما أقرب إلى شجارات رياض الأطفال، ما يجعل من المحير كيف يديرون الدولة ومفاوضات التبادل.