بقلم د.عماد عكوش – الحوار نيوز
تفلس البنوك لأسباب عدة ،منها ما يتعلق بالأزمات المالية العالمية والركود الاقتصادي، ومنها ما يتعلق بسوء الادارة ، أو الدخول في مخاطر بهدف تحقيق الربح السريع ، وفي بعض الأحيان يمكن ان ينتج الافلاس عن عمليات احتيال كبيرة ، وقد رأينا الكثير من الامثلة عن افلاسات حصلت في التاريخ الحديث لسبب من هذه الاسباب المذكورة ، فسبب افلاس “سيليكون فالي بنك” الأميركي كان قيام بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة ، وإفساد شهية المستثمرين للمخاطرة ، وتراجع قيمة السندات التي يستثمر فيها بنك وادي سيليكون .
سبب آخر ،حالة الذعر التي يمكن ان تنتشر لدى المودعين خاصة في حالة عدم قدرة المصرف على تسييل أصوله بالسرعة المطلوبة كما حصل مع بنك “سقنتشر” في نيويورك ، والذي يملك أصولا بقيمة 110 مليارات دولار وإجمالي رأس مال يبلغ 8 مليارات دولار، حيث وقع في مأزق عندما بدأ العملاء وهم في حالة ذعر بسحب ودائعهم . تم إغلاق البنك من قبل وزارة الخدمات المالية بولاية نيويورك في 12 مارس، بعد أن أظهر البنك أنه غير قادر على تحسين وضعه المالي قبل صباح الاثنين 13 أذار 2023 وعودة التعاملات المالية.
بالعودة الى لبنان ومع كثرة تجاربه في القطاع المصرفي ووقوع هذا القطاع لأكثر من مرة في حالة تعثر وان اختلفت نسبها بدءا من افلاس مجموعة انترا ، الى أزمة 1989-1990 ، وما شهده القطاع المصرفي خلال السنوات الاربعة الأخيرة ، أسقط القناع عن هشاشة البناء المصرفي ، وأعاد إحياء تاريخ انعدام الاستقرار الذي سبق عصر الاستقرار “المصطنع” ، الذي رافق لبنان منذ استقلاله ، حيث شهد هزات مصرفية كبيرة ترافقت مع الأزمات السياسية .
كانت بداية الافلاسات مع بنك انترا ، وبدأت قصته عام 1951 ، عندما أطلق يوسف بيدس ، مع شركاء له «بنك إنترا» برأسمال بلغ مليونيّ ليرة لبنانيّة. خلال الستينيات ضاعف «إنترا» رسملته ثلاث مرات، من 6,4 مليون ليرة إلى 20 مليون ليرة. وأصبح للمصرف فروع في كلّ أنحاء لبنان، وفي العديد من البلدان العربيّة والأجنبيّة.
في الواقع ، بدأ يتمدد هذا البنك بشكل كبير وقام بتوظيف معظم سيولته في استثمارات متوسطة وطويلة الاجل الى ان جاءت أزمة الركود الاميركي في علم 1966 والتي رفع البنك المركزي الاميركي فيها الفوائد بشكل كبير ، هذا الرفع في الفوائد أدى بطبيعة الحال الى بداية خروج من قبل المستثمرين الخارجيين وخاصة العرب للتوظيف الآمن في السندات . وهنا نشير الى أنه في ستينيات القرن الماضي ، كانت حركة خروج الرساميل ودخولها سريعة وحسّاسة لارتباطها بمعدّلات الفائدة في السوق، وهو ما جعل معظم الودائع قصيرة الأجل.
إن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، الذي بدأ في الولايات المتّحدة وامتدّ إلى المملكة المتّحدة ، أثّر في شكل كبير على النظام المالي اللبناني وأدّى إلى خروج رساميل وودائع من لبنان إلى الأسواق التي توفّر عوائد أعلى . لهذا السبب حدثت أزمة السيولة في عام 1966.
المؤسف ان لبنان والمصرف المركزي اللبناني لم يتعلما من هذا الدرس ،وبقي الواقع على حاله ولم يتم تحديث القوانين المصرفية لمنع تكرار الازمة ، كما لم يتم اصدار تعاميم خاصة لتقييم الواقع المصرفي ومدى قدرة كل مصرف على مواجهة حالة كهذه الحالة في حال تكررت نفس الاسباب .
بين عامي 1989 و1990 ضربت الأزمة 13 مصرفاً، وقد أحيلت 4 مصارف الى القضاء الذي حكم بتوقفها عن الدفع في تواريخ مختلفة ،وهي بنك المشرق، والبنك اللبناني العربي، وبنك مبكو وبنك الازدهار اللبناني. وقد جرت تصفية هذه المصارف بموجب القانون 2/67 الذي صدر في أعقاب أزمة “إنترا”.
مصرف واحد هو البنك اللبناني – البرازيلي، اختار التصفية الذاتية بموجب القانون 110. تسمح التصفية بتسديد كل الودائع لأصحابها بعد بيع كل موجودات المصرف لمصرف لبنان. كما تم بيع بعض الملفات المصرفية عن طريق المصارف المتعثرة الى مصارف سليمة.
في تلك الفترة كانت المصارف التي تفتقر الى السيولة تعتمد نسق “الاضراب”. أي أنها قبل التوقف نهائياً عن الدفع كانت تعتمد صيغة إضراب الموظفين قبل إشهار إفلاسها. ومع ذلك لا يمكن اعتبار ما يحصل اليوم مشابهاً لما جرى خلال تلك الفترة، علماً أننا نجهل تماماً وضع المصارف المفتقرة الى السيولة بمستويات غير مسبوقة. وحدها الايام المقبلة وما ستحمله كفيلة بتبيان الحقيقة التي يحاول المسؤولون إخفاءها.
في تلك الفترة أيضا لم تقم السلطة التنفيذية ولا السلطة النقدية بأي ترتيب او اقتراح يمنع تكرار الازمة، رغم ان أزمة معظم المصارف التي حصلت فيها المشاكل كانت أزمة سيولة لم تستطع المصارف الحصول عليها لتلبية الطلبات الكبيرة للمودعين .
مع بداية الازمة السورية بدأت الولايات المتحدة الاميركية بفرض عقوبات على القطاع المصرفي اللبناني، وبداية بدأت في عام 2011 مع البنك اللبناني الكندي حيث اُدْرِجَ البنكُ اللبنانيُ الكندي على لائحةِ العقوبات .وقد أثبتَ مصرفُ لبنان حينَها التزامَه بالقوانينِ الأميركيةِ المتعلقةِ بمكافحةِ تمويلِ الإرهاب بعدها تبعه “بنك الجمال” خلال العام 2019 ،حيث أعلنت الحكومة الأميركية، في شهر اب من العام 2019 ، أنها فرضت عقوبات على مصرف “جمال ترست بنك” اللبناني، الذي تتهمه “بتقديم خدمات مصرفية لميليشيات حزب الله”، بحسب بيان لوزارة الخزانة ، ومن شأن هذه العقوبات تجميد أصول البنك في الولايات المتحدة، وحظر التعاملات من خلال النظام المالي الأميركي.
المؤسف ان الحكومات المتعاقبة لم تتعلم من النتائج درسا حول الاسباب الحقيقية لهذه الازمات وسبل مواجهتها في المستقبل، وعدم تكرارها بل أبقت الامور على حالها، منها مثلا:
- قانون النقد والتسليف الذي بقي على حاله من دون تعديلات هامة تعمل على استقرار المصارف وتمنع أزمات السيولة في حالة الازمات الاقتصادية المحلية او الدولية كما حصل سابقا ، كما تمنع تفرد الحاكم في القرارات غير المسؤولة ، وتحمي مفوض الحكومة من المساءلة لدى تقصيره كما لجنة الرقابة على المصارف .
- الابقاء على نفس المجلس المركزي من ناحية المراكز والتعيينات ، وبنفس الصلاحيات لدى مصرف لبنان ، بالتالي لم يتم خلق استقلالية لهذا المجلس بعيدا عن السلطة التنفيذية لمصرف لبنان، وبعيدا عن الحاكمية التي تديره ، كما لم يتم خلق معايير تجعل من تعيين المجلس المركزي بعيدا كل البعد عن المحاصصة والشبهات .
- الابقاء على نفس لجنة الرقابة على المصارف المولجة بعملية الرقابة على المصارف من كل النواحي، والتأكد من التزامها بالقوانين والتعاميم الخاصة بها والصادرة عن السلطة التشريعية اللبنانية ومصرف لبنان ، وبالتالي بقينا في فلك تعيين هذه اللجنة من قبل سلطة المصارف بما فيها مصرف لبنان وان كان التعيين يصدر عن مجلس الوزراء .
- لم يقم مصرف لبنان ولا الحكومة اللبنانية خلال السنوات الماضية بتعديل في السياسات المالية والتي تؤكد على الرقابة والتشديد على وجود خطة عمل لكل مصرف في مواجهة اي ازمة سيولة .
- لا محاسبة للمصارف المخالفة للقوانين والتعاميم، وهذا ما يحصل اليوم فجميع المصارف خالفت وما زالت تخالف التعاميم، ومنها التعميم 154 الخاص بالرسملة والسيولة واعادة جزء من التحويلات التي حصلت خلال فترة الازمة ، كما ان المصارف ما زالت تسرق اموال المودعين بخلاف تعميم مصرف لبنان وخاصة التعميم 158 .
ان التفلت الذي عاشته المصارف ومصرف لبنان ما قبل الازمة وعدم تطبيق القوانين والتعاميم بجدية وحزم، أوصلنا الى ما وصلنا اليه ،وبالتالي لا اصلاح يمكن ان ينجح اليوم بنفس الادوات وبنفس القوانين وبنفس القضاء . لا ثقة بكل هؤلاء ولا بد من خلق البدائل او بالحد الادنى التعديل على أسس قيام هذه الاطراف وكيفية عملها والرقابة عليها ومحاسبتها قبل كل شيء .